(ليلة في ساحل الغدير)

> إبتدينا يا حبيبي بعد ما قالوا انتهينا

وانتهى كل اللي قالوا إنما نحنا ابتدينا

إبتدينا بحب تاني حب ما يخطر في بال

حب خلاهم يعيشوا العمر في حيرة وسؤال

بعضنا يميل برأسه مع اللحن والآخر يطقطق بأصابعه مع الإيقاع الجميل

صاح علي حسن.. الله عليك يا فهمي اختيار ممتاز.

التقت عيناي بعينيه في نظرة عتاب لقطعه انسجامنا المتواصل للاستمتاع بالعزف الرائع للفنان الكبير أحمد قاسم.

أحيانًا كثيرة تتلاقى عيناي بعيني أحد الزملاء، أقرأ فيهما صفحات تزيد أو تنقص من كتاب ذكريات أحداث مرت بنا معًا أو مع زملاء آخرين في المدرسة أو الشارع أو الملعب أو غيرها.

تشتعل ذاكرتي لأشعل منها شموعًا ترتص بقصص الذكريات ليصبح المكان أكثر إنارة.

ليلة من الليالي الساحرة لعيد الأضحى الماضي على ساحل الغدير في البريقة تجمعنا نحن أصدقاء العمر، وأغلبنا زملاء الدراسة الأساسية والثانوية، لنقضي مع بعض، ليلة من ليالي عدن الجميلة، كل واحد منا يتكلم بما يهوى بلا تكلف.. هكذا تعودنا.

من حديث فهمي النعاش حول رياضة الزمن الجميل، إلى تعقيب عارف عمَّار عليه، وردِّ سامي خالد حول إيرادات النفط لناصر العبادي، وفي الجانب الآخر يتناوب كمال عبدالملك مع محسن علوي عصا الشيشة.

اقترب المغرب فصلينا جماعة، وقف وليد بيضاني وصرَّح بأنه حان وقت إحضار العشاء.

مجموعة الجنود المجهولين منا، مثل أفاق حاتم، وأحمد محمد، وفريد، وخالد عبدالله قد ابتاعوا صباحًا سمكًا من حراج صيرة، وحفظوه في برادة بين الثلج، ليبقى طازجًا حتى الطباخة.

انتهت وجبة العشاء وصلاة العشاء، وعدنا للجلوس والاتكاء لمضغ القات، ونسمع أغاني الزمن الجميل.

استرعى انتباهنا محمد هادي المنسجم، إلى حد أنه لم يلحظ أننا نراقبه.

فقلت معلقًا (يا أخي أداء فيه روعة يزرب الديم) - بتواجدهم تتواجد في ذاكرتي صفحات لتاريخ طويل من الصداقة والزمالة، مملوءًا بالوفاء والاحترام والحب والمغامرات والطيش واللعب والكرم والنخوة ووو... ذكريات مهما طال الزمان وابتعد في كل مرة أراها أقرب وأقرب، وفي كل مرة أعود بالذاكرة وكأنني أعود لذلك الزمان بكل تفاصيله الرائعة.

كانت بعض لحظات يزورني خيال زملائنا الذين رحلوا عنا في هذه السنة، وكانوا يشاركونا الرحلات، وكانوا يملؤون الأماكن الفارغة فيما بيننا محمد عبدالملك وعلي عامر وأنيس خالد رحمهم الله. أيضًا كان لنا في سياق الحديث، تذكر بعض الزملاء الذين اعتذروا عن الرحلة مثل ثروت جيزاني والعمدة عبدالله باحاج وعبده مسعد وزياد باسنيد ورائد طه وغيرهم.

نحن جيل السبعينيات والثمانينيات، لدينا قاسم مشترك، ليس فقط بهواياتنا كعشق كرة القدم، وفن الزمن الجميل العدني والعربي والأجنبي؛ بل أيضًا في بعض تصرفاتنا اللا إرادية، وكأننا نهلنا وشربنا من منبع واحد.

حقيقة ففي زمننا كان البيت بدفئه وحرص الأبوين على التربية السليمة، ففي الشارع كانت النصيحة بنبذ أصدقاء السوء، وبما فيه من مساجد ذات منابر معتدلة وسطية، والمدرسة بأمانة وتضحيات ونزاهة القائمين عليها من مديرين وموجهين ومعلمين أفاضل، والنادي الذي يشكل بيئة ثقافية نشطة ومتعاونة، كل هذه تشكل ثقافة المدينة التي تبني المواطن المسؤول ثقافة وتربية بأركانها الأربعة تعتبر أفضل منهل لصناعة رجل المستقبل. أجدها في حديث وتصرفات وأولويات زملائي، عكس ما نجده في جيل اليوم المحروم من كل شيء ومن كل ثقافة محترمة.

غفلنا كثيرًا وخفنا على أنفسنا وبيوتنا، ولم نناصر المعترض والداعي للإصلاح، وصمتنا، وحين يصمت العقل ينطق الجهل.

فوجدنا الطالب مجرد سلعة لمدرسة خاصة تشتري أسرته شهادة جهله إلا من رحم ربي.

ووجدنا الأندية والملاعب أصبحت خاوية على عروشها، وإن سيرت بعض الأنشطة فيعاود الخلاف بين وزارات الرياضة التي تمتهن السياسة أكثر من الرياضة أو اتحاداتها وإدارات الأندية في دولة أعلن العالم فشلها.

ووجدنا الشارع أصبح ملغمًا بأنواع المحرمات والمخدرات والجرائم والقادمين المبهمين من كل حدب وصوب.

ووجدنا المساجد تم استباحة منابرها، وأصبحت بعضها وظيفتها كيف يتم تهيئة وإرسال طالب العلم الشرعي ليصبح حزامًا ناسفًا أو مقاتلًا في جبهات أحزاب صنعاء.

هكذا انحدر مستقبل أجيال مدينتنا نتيجة تغيير ثقافة المدينة التي كانت من أرقى مدن العالم.

أجيال محرومة مستهدفة من أحزاب متسلطة هي أقرب للعصابات، ترفع شعارًا مفاده إن لم تكن معنا ضد مجتمعك فأنت هدفنا للتخلص منك.

تعيدنا مرة أخرى أنوار مصفاة عدن إلى أحاديث الرثاء لحالها، وتكشف عقاب وتعذيب أهل مدينتنا (قال سيعيد عدن قرية)، وما وصلت إليه اليوم هذه المصفاة التي بناها الاحتلال الإنجليزي شاهدة على رقي وتطور هذه المدينة قبل أي مدينة في الجزيرة والخليج، لكن هذا ثمن الشطحات الثورية التي أرسلت شعبًا وأرضًا وأجيالًا وثروات لباب اليمن الملغوم بعصابات الحكم الإرهابية.

حقيقة لا يوجد شعب في العالم يتندر باحتلال أجنبي ويذكره بالخير إلا شعب الجنوب العربي (ليتنا لم نثور على الإنجليز)، ولا هذا الاحتلال الشمالي، معهم كل الحق فالاحتلال البريطاني بنى وعمَّر وطوَّر المدينة، وحين غادرها بالسلاح، أخذ قتلاه ولم يدمِّر أي مَعْلمٍ أو منشأةٍ أقامها، بينما الاحتلال اليمني الشمالي قتل من أبناء الجنوب عشرة أضعاف ما قتلوا أيام الاستعمار البريطاني، ودمَّر كل المنشآت العامة والخاصة وآخرها مطار عدن الدولي ولازال يتحين الفرصة.

ومع إن لكل شي نهاية.

ففي الثانية بعد منتصف الليل غادرنا هذا المكان الساحر، وأراها خيانة إن لم نكرر دائمًا زيارة هذا المكان.

ومن المفيد أيضًا أن تكون الرحلات واللقاءات فرصة لإنعاش الأنفس، وللهروب من قسوة الحاضر المزري المفعم بالآلام والحروب المتعمدة على شعبنا ومدينتنا.

الحقيقة أن الفضل يعود لوسائل التواصل الاجتماعي التي قربت لنا المسافات والأزمنة، واستطعنا عبرها التواصل وبرمجة لقاءاتنا مجددًا.

(شكرًا لأصدقائي الرائعين، حين أمر على حروف الهجاء، في الصباح أو في المساء، بكل شوق وحنين، وشكرًا لكل المتجولين في بحور الشعر والآهات، أو موانئ الحروف والكلمات، أو بساتين الصداقة والأدب، شكرًا من كل قلبي للحظات جمعتني من جديد بأصدقائنا من ذهب، شكرًا من كل روحي رغم ما أعانيه من تعب، في انتظارهم وسؤالهم.. شكرًا لأني صابر كالسجين للزائر حين الطلب، كالأكسجين تشهقه الرئة ويمتصه الدم في الأوردة، ويعطي للحياة سببًا كالعطر المحبوس في العلب، ينثر على الأجياد بكل ترحاب وحب، شكرًا على المناقشة والمجادلة أو لمن لنا وهب، الفرح والبسمة والطرب، شكرًا لمن غاب لسبب، أو عاد واقترب، وسبحان الذي سخر لنا من شطحات الخيال والعجب، شكرًا للأصدقاء الرائعين من الأجانب والعرب، وستبقى الذاكرة تتوهج بذكرهم طال الأجل أو قرب، والتقدير والاحترام لهم سنة، العمل بها قد وجب).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى