​انهيار العملة وارتفاع الأسعار.. صواعق لعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي

> د. مطهر العباسي

>
كل المؤشرات والدلائل تؤكد أن سلطة عدن لا تمتلك رؤية سليمة لإدارة السياسات المالية والنقدية مما دفع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى المجهول، يتجلى ذلك فيما نلمسه اليوم من مظاهرات واضطرابات في عدن وحضرموت وتعز يقودها شباب، معبرين عن سخطهم وغضبهم، خوفًا من الوقوع في براثن الجوع والفاقة، بسبب التصاعد الجنوني لأسعار السلع، وخاصة السلع الغذائية مصدر الأمان لبقائهم وأسرهم على قيد الحياة، وانعدام الخدمات من مياه وكهرباء وأمن، وغيرها.

ولقد قلنا مرارًا وتكرارًا أن سلطة عدن انتهجت سياسة مالية ونقدية متهورة وغير منضبطة، قائمة على أسس غير سليمة في إدارة المال العام، يتمثل ذلك في استمرار طباعة مئات المليارات من الريال لتمويل نفقات الدولة على القطاعين المدني والعسكري، دون توفر موارد مالية من النقد الأجنبي لحماية العملة الوطنية من التدهور والانهيار.

فالاقتصاد اليمني يعتمد على الواردات السلعية من الخارج والتي تغطي قرابة 90 إلى 95% من الاستهلاك المحلي، وكل تلك السلع المستوردة من الغذاء والدواء والكساء وغيرها من مستلزمات الحياة، يتم شراؤها بالعملة الأجنبية (الدولار، أو الريال السعودي، أو اليورو، وغيرها)، وحيث أن البنك المركزي لا يمتلك الأرصدة من تلك العملات لتوفيرها للبنوك وللتجار المستوردين، فإن هؤلاء يتجهون للصرافين الذين يفرضون أسعار متزايدة كل يوم للدولار مقابل الريال. وما يزيد الطين بلة، أن البنك المركزي ينافس الجميع في سوق الصرف لتوفير عملة صعبة لتمويل نفقات الحكومة في الخارج، وهذا كله يؤدي إلى التصاعد في سعر الصرف، وينعكس مباشرة في أسعار السلع المستوردة أو المنتجة محليًّا. وإذا استمرت الحكومة في طباعة النقود على هذا المنوال، فإن الريال اليمني سيفقد قيمته ووظيفته في التعاملات المالية والتجارية وسترتفع الأسعار إلى أرقام فلكية في الأشهر والسنوات القادمة، وسيتحول التجار وعامة الناس إلى استخدام عملات أخرى أكثر أماناّ وموثوقية، مثل الدولار، أو الريال السعودي، وغيرهما.

ومما يزيد الوضع سوءًا، أن الحرب أفرزت العديد من الظواهر المخيفة، فقد زاد معدل الفقر إلى قرابة 80%، حسب تقارير الأمم المتحدة، وقفز معدل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 75%، أضف إلى ذلك التراجع الكبير في النشاط الاقتصادي في كل القطاعات الإنتاجية والخدمية. وكل تلك المؤشرات أدت إلى نضوب مصادر الدخل لمعظم الفئات العاملة، كما أن تزايد سعر صرف تسبب في تدهور القوة الشرائية للريال، وأصبحت السلع الغذائية والضرورية بعيدة المنال عن متناول معظم المواطنين. وهذا كله يمثل صواعق جاهزة للاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عموم المحافظات تحت حكم سلطة عدن.

تأثيرات تهدد حياة الملايين
ولا غرابة أن نرى المظاهرات الغاضبة في المدن والأرياف من حضرموت حتى تعز، لأن تأثيرات الغلاء والبطالة وصلت حتى العظم وتهدد حياة الملايين من السكان. وما يخشى منه، في ظل ترهل الأجهزة الأمنية وضعف سلطات الدولة، أن تتحول تلك المظاهرات إلى عصيان مدني يجتاح تلك المناطق وتتعاظم الخسائر المادية والبشرية، لا سمح الله.

وقد يقول قائل، لماذا لم يحدث هذا الإنهيار للريال والارتفاع المستمر للأسعار في مناطق سلطة صنعاء؟ والإجابة على ذلك سهلة وواضحة: أولاّ، البنك المركزي في صنعاء ليس لديه القدرة على طباعة نقود جديدة ولم يسمح باستخدام النقود المطبوعة من البنك المركزي، عدن، وبالتالي انعدمت المضاربة بالريال مقابل الدولار وتحقق الاستقرار في سعر الصرف، (وفي لغة الاقتصاد فإن هذا جعل التغير في العرض النقدي يساوي صفر أو سالب، وفي ظل ضعف النشاط الاقتصادي فإن معدل التضخم يكون ثابتًا ومستقرًا)؛ وثانيا، إن سلطة صنعاء لا تمول نفقاتها من الطباعة الجديدة للعملة، وإنما يتم تغطية النفقات الحكومية من مصادر غير تضخمية، وتشمل الضرائب والجمارك والزكاة وغيرها. وثالثا، إن البنك في صنعاء لا يمتلك احتياطيات من العملة الأجنبية تمكنه من إدارة سعر الصرف وتثبيته عند مستوى معين، ولكنه اتخذ إجراءات قوية للرقابة على سوق الصرف والصرافين، مما خفف من المضاربة بالعملات الأجنبية، وأدى إلى استقرار سعر الصرف.

وفي حقيقة الأمر، لو تمكن البنك المركزي في صنعاء، من طباعة نقود جديدة لتمويل ميزانية الحكومة، فإن النتيجة ستكون مشابهة لما يجري في مناطق سلطة عدن: "انهيار الريال وارتفاع الأسعار"، لأن المظاهر الأخرى للأزمة متشابهة بين صنعاء وعدن، مثل ضعف النشاط الاقتصادي وتزايد معدلات الفقر والبطالة وغيرها.

إنقاذ المركب
ولمعالجة مظاهر الأزمة الاقتصادية المتجذرة بدرجات متفاوتة في كل من عدن وصنعاء، لا بد لأصحاب القرار في طرفي الصراع أن يتخذوا خطوات شجاعة وجريئة، لأن المركب واحد وغرق أحد الأطراف لا يعني سلامة الطرف الآخر، ومما يجب التأكيد عليه في هذا الشأن:
أولا، أهمية تحييد المؤسسات المالية والنقدية عن الحرب والصراع بين الأطراف، ولتكن البداية في تحييد السلطة النقدية للبلد "البنك المركزي"، والعمل على وضع الموارد السيادية للدولة (عوائد منتجات وصادرات النفط والغاز، الضرائب والجمارك وغيرها) في حسابات الحكومة لدى البنك للوفاء بالالتزامات المشتركة مثل صرف مرتبات الموظفين في كل المحافظات، ونفقات تشغيل مؤسسات الدولة المركزية والمحلية، وإدارة الاحتياطيات الدولية بهدف استقرار سعر الصرف وتخفيض التضخم.

ثانيا، إن كل الدلائل تشير  إلى أن التحالف من دول الجوار تقع عليهم المسؤولية الأخلاقية والقانونية في اتخاذ التدابير اللازمة لاستقرار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين وتوفير الدعم للمؤسسات المالية والنقدية في سلطة عدن لتمكنها من التحكم في سعر الصرف ومن كبح جماح التضخم في مناطقها وبما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني عامة؛ فالحلول العسكرية خلفت عشرات الآلاف من الضحايا في كل أسرة ومنزل، والتقاعس في معالجة الأزمة الاقتصادية سيؤدي إلى عواقب وخيمة في عموم البلاد، وقد يصل حممها إلى عمق الاقتصادات المجاورة.

ثالثا، إن الخيارات أمام سلطة عدن محدودة وواضحة، ويجب عليها التحلي بالشجاعة والمسؤولية لتنفيذها خدمة لعموم المواطنين المكتوين بنيران الغلاء والبطالة والفقر، وتلك الخيارات تشمل:
- ضرورة تصدير النفط والغاز من جميع الحقول في حضرموت وشبوة ومأرب، وتوريد عوائدها إلى البنك المركزي لتكوين احتياطيات ملائمة من العملة الصعبة تمكنها من إدارة سعر الصرف واستقراره في عموم محافظات الجمهورية.

- ضرورة الحصول على وديعة من الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي بحدود 4 إلى 5 مليار دولار، لتعزيز الاحتياطيات من جانب ولتمويل استيراد السلع الغذائية الأساسية، عند مستوى مقبول لسعر الصرف بهدف السيطرة على أسعار تلك السلع وضمان عدم غلائها.
- التوقف الفوري عن طباعة النقود الجديدة، لأن التمادي في الطباعة معناه إنهيار لقيمة الريال وتصاعد جنوني لأسعار الأساسية والضرورية، وبالتالي تدمير النسيج الاجتماعي لكل شرائح المجتمع وتغذية سبل الفوضى والتشرذم.

- سرعة اتخاذ الإجراءات لتمويل الميزانية العامة من مصادر غير تضخمية، وهذا يشمل ضرورة تحصيل الإيرادات الضريبية والجمركية وغيرها من جميع المكلفين ومن جميع المنافذ وتوريدها في حساب الحكومة لدى البنك المركزي لتمويل نفقات الحكومة، وأولها صرف مرتبات موظفي الدولة في عموم المحافظات وبالتنسيق مع سلطة صنعاء، وعدم التسامح مع المحافظات التي تستولي على موارد الدولة دون وجه حق.

- اتخاذ إجراءات ملموسة لتمويل الميزانية من مصادر غير تضخمية عن طريق إصدار السندات الحكومية بهدف سحب السيولة الفائضة من الصرافين وكبار التجار والشركات والبنوك.
رابعا، تظل المقترحات السابقة تكتيكية وقصيرة الأجل والمطلوب حلولا استراتيجية وبعيدة المدى، وهذا يحتم على الأطراف المتصارعة ترك لغة الرصاص والسلاح والولوج إلى ساحة الحوار ووضع مداميك راسخة للسلام والاستقرار والعيش المشترك في وطن يتسع للجميع، وأن يكون النهج الديمقراطي هو المبدأ السائد والقبول بالمغالبة البرامجية لحشد الجماهير، وبحيث يكون صندوق الانتخابات هو الفيصل لتأهيل أي طرف لخدمة المواطنين في الحضر والريف وإدارة شؤونهم وتلبية تطلعاتهم الراهنة والمستقبلية.

"خيوط"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى