​الجوع في الجنوب حكايات ومواقف مؤلمة

> إن في بطني جوعًا وفي رأسي جرثومة مقالة تضغط علي لأكتبها بعد أن وصل الوضع إلى ما وصل إليه في الجنوب الحبيب من تجويع وإذلال  وتركيع لهذا الشعب الصامد الصابر الذي خرج يبحث عن دولته المستقلة ويستعيد استقلاله وكرامته، فشنوا عليه حربًا تستهدف وجوده.
أكتب لكم أيها الأحباب ولعلي جائع من غير أن أدري كل ما في الأمر أني تغديت نصف مكان عصيد فقط والحمدلله، فهذه نعمة لم يجدها كثير من الناس، ولكن جرت العادة أن أتغدى حين أكون خارج البيت مكان عصيد أو نصف مكان وربع دجاج، ولكن هذا النوع من الغداء صار يشكل لنا عجزًا في الميزانية اليومية فاكتفيت بهذا النصف العصيد، وكنت أوفر حظًا من الذين يحومون حول المطاعم كما تحوم الطيور، ولكن من غير حب ولا حبيب.

 أنا أستاذ جامعي وراتبي في حدود ثلث مليون ريال، ولكن وصلنا في هذا الوضع الراهن إلى ما لم نكن نتوقعه.
 كنا نخفي حجم رواتبنا عن الناس أما الآن فلم نعد نخفي ذلك فنقولها بكل وضوح لأن هذا الراتب لم يعد يكفي.

 (القراع) أو ما يسمى الفطور أو الصبوح يتكون من قلص شاي أحمر وقرص خبز فليس هناك بيض وليس هناك فاصوليا ولا فول ولا تونة ولا أي نوع من أنواع الإدام الذي نسميه (الخصار)، فهذا ذكرني بأيام الطفولة في البلاد عندما كنا نغمس الخبز في الشاي الأحمر ونأكل فأنا أعمل هكذا الآن صباحًا وأتذكر طفولتي فليس الأكل عمومًا بمنأى عن الثقافة المكتسبة وعن الحنين إلى الماضي.

 شهور مرت لم نعد نعرف السمك ولا اللحم إلا إذا كان هناك عزومة (وليمة) أو عرس أو عزاء أو شيء من هذا القبيل. الثلاجة في إجازة مفتوحة فالمواد غائبة والكهرباء متقطعة.
ما هذا الأمر الذي وصلنا إليه في الجنوب؟

الأزمات تحصل وسنين الجدب تمر وهذا مر على آبائنا وأجدادنا وحتى علينا نحن ذات يوم، ولكن كان ذلك بفعل ظروف طبيعية معقولة وليس بأيدي أناس ودول.  فهذه الأزمة الراهنة مخطط لها من قبل قوى محلية ودول إقليمية وهي امتداد للحرب الراهنة على العباد والبلاد. ومواجهة هذه الحرب وجرائمها ليس فقط بالصبر والتحمل ولكن لابد من هزيمتها وإفشالها، فنحن شعب ولدينا طليعة سياسية ولا نعدم سبل الخروج من هذا المأزق التاريخي الذي جاء امتدادًا لمازق الوحدة المغدورة.

أصدقائي يتصلون من هنا وهناك أناس عزيزون مثقفون غير اعتيادين: يا دكتور نحن نشكو الجوع ماذا نعمل؟ يسألون عن دعم من اتحاد أدباء الجنوب أو من منسقية الجامعة أو من قيادة المجلس الانتقالي ولكن ما باليد حيلة فلابد من حل دائم وجذري فما بالك عندما يمرضون أو تتعطل أجهزتهم في المنازل ماذا يفعلون؟

لم يعد الموظفون يذهبون بانتظام إلى مرافقهم بسب غلاء المواصلات وخواء الجيوب والذي عنده سيارة تجدها قد أعلنت له عن نفاد البترول ورفعت الراية الحمراء.  يغيب الطلاب عن مقاعد الدراسة لهذا السبب والله المستعان.
تمر الشهور وتلحقها شهور وينتهي عام ويبدأ آخر ورواتب منتسبي الجيش الجنوبي والأمن منقطعة وموظفين آخرين الله يعلم حالهم، فكيف يعيش هؤلاء وكيف هو وضع أسرهم؟؟!! 

هكذا تغذيت وهكذا تصبحت سيارتي أيضًا تشكو من الجوع هي مؤشرة ما أن أمشي قليلًا حتى تؤشر وتذكرني بحاجتها الملحة.
لم نعد نشتري بنطلونات جديدة وقمصان حتى حين تهل الأعوام الجامعية الجديدة نكتفي ببنطلون أسود ثم ننوع عليه القمصان من أي لون نوهم الناس بالتغيير والشياكة.

 في ظل هذا الوضع البائس لا أخفيكم أنني أخزن قاتًا ولكن ليس على طريقة من يخزن بعشرات الآلاف، وبعضهم بمئات الآلاف، ويشرب مياه حدة الغالية أو شملان ويشحن جواله وحدات كثيرة وبطنه تعج بلحوم وفيرة كل يوم تقريبًا، في ظل واقع مؤلم يتضور الناس فيه جوعًا ويأكل بعضهم من براميل القمامة، فأين الرحمة وأين التكافل وأين مراعاة مشاعر الناس وأين استشعار معاناتهم؟

  قبل سنوات الحرب كتبت مقالًا ونشرته في صحيفة "الأيام" كان بعنوان (أكلة اللحوم والأعشاب البرية) وقد لقي صدى طيبًا كان ينتقد عبث المترفين في ظل عوز المحتاجين وفي اليوم الثاني قابلت أستاذي الكريم د. عبدالمطلب جبر رحمه الله فأشاد بالمقال وقال لي بصوته الهادئ العذب (تعرف يا دكتور أنني استحي أن أشتري ثلاثة كيلو لحم وأعود بها إلى البيت في ظل هذا الوضع) فماذا يقول أستاذنا إذا قدر له أن يدرك واقعنا اليوم رحمه الله تعالى؟

نساء يتسولن وهن عزيزات محترمات بنات ناس يهمسن على استحياء منكوسات الرؤوس وأحيانًا يصحبن أطفالًا مثل الورد عزًا وجمالًا لم يألفن التسول منذ خلقهن الله على هذه الأرض العزيزة!
 تمر الأيام وتزداد الأزمة حدة وشراسة ونحن نتنازل عن كثير من الضروريات والكماليات ولكن إلى أين تمضي بنا هذه الموجة المفتعلة الحاقدة التي توغل في إيذائنا وإذلالنا والشماتة بنا والانتقام منا؟

نحن شعب أبي وعزيز وأصحاب ثوابت راسخة كالجبال وواهم من يظن أنه يستطيع تجويعنا وتركعينا لكي نتنازل عن ثوابتنا وقضيتنا الوطنية الجنوبية، ولكن الصبر والتحمل ليس سلاحنا الوحيد في مواجهة هذه الحرب غير الأخلاقية.
فيا أيها الجنوبيون شعبًا وقيادة وجيشًا ومخالفين ومعارضين إن الغزاة في شرقكم وغربكم وشمالكم والجوع يحتل منازلكم والبحر من جنوبكم!! فأين تذهبون؟ وحتى متى تصبرون؟

فليس أمامكم غير استكمال تحرير أرضكم وبسط نفوذكم على ثرواتكم وتحقيق سيادتكم.
((فإذا عزمت فتوكل على الله))

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى