​الاستقلال

> لنوفمبر الاستقلال 1967م مذاق خاص في السنة الناس، حلو و مر في آن. البعض وعاه جيدا في نطاق توقيتاته وزمنه و تاريخه، والبعض نظر لأحداثه من منظور اليوم، وأسقط الحاضر بمراراته على ذلك الماضي غير البعيد، بل ونصب المحاكم لمحاكمته ومحاكمة الثورة.
أما تأثيره، وبقية من بقاياه في الوعي لمجموع جيل الشباب اليوم، فيكاد أن يكون واقعا في المنطقة الرمادية: ما هو الاستقلال، وما الثورة والجمهورية الجديدة ومن أول رئيس لها ووو إلخ.

في ظل أمية متفشية في جيل "الوحدة" وأمية معرفية وثقافية وتاريخية نتاج أخذ الأحسن إلى الشمال من تجربة جنوب خال من الأمية بشهادة اليونسكو عام 1982م وتصدير الأسوأ إلى الجنوب.
أتفهم رأي البعض ممن يقولون، جادين ،و متندرين: إننا أخطاءنا التقدير بطلب الاستقلال عن طريق الثورة، ولم ننصع لرأي قوى سياسية نادت بالاستقلال عن طريق النضال السلمي كما فعلت الهند. ولكنني أفهم جيدا ظروف ومعطيات مرحلة الثورة والكفاح المسلح 1963-1967م محليا، وتأثيرات الخارج العربي والعالمي الداعي لطي صفحة الاستعمار، فلا يمكن حتى التفكير في لجم فورة البركان الشعبي الثوري في ذلك الحين.

كانت الجماهير تتطلع للأفضل بالاستقلال، فهل تحقق الأفضل بعد الاستقلال بالطريقة التي حلم بها كثير من الثائرين؟
فإن كانت الإجابة بـ (لا) فمرجع ذلك إلى أفراد وتنظيمات أنيطت بهم قيادة شعوبهم وبلدانهم بعد تحريرها، فأخفقوا في الإدارة والحكم بما لم يحقق حلم الجماهير، وليس العيب في (فكرة) الاستقلال نفسها.

وللتدليل فقط، كانت الثورة الفرنسية الكبرى 1789م حدثا تتجاوز تأثيراته الداخل الفرنسي إلى ما هو عالمي بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة المستلهمة مباشرة من أفكار جان جاك روسو وفولتير ومونتسيكو، لكن الثمن كان باهظا، فما أفضت إليه الثورة في عقودها الأولى كان حربا أهلية وشلالات من دم ومقاصل كومت أهراما من الجماجم.

وديكتاتوريات "نوبارتيه" حاربت الكل الأوروبي، وألبت الكل على فرنسا، ولم يستقر أمر فرنسا بجمهورياتها المتلاحقة إلا بعد عقود من الفوضى.
لقد ترسخت "الديمقراطية" في أوروبا في الحقبة الاستعمارية، ولكنها كانت ديمقراطية أحادية الجانب وتكيل بمكيالين، تجاه داخلها الأوروبي، كان "صواع" الديمقراطية مترعا لصالح أصحاب البشرة البيضاء، وتجاه شعوب جنوب البحر المتوسط كان "صواع" الديمقراطية مترعا بالدم. وأبشع الصور الاستعمارية سجلت في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.

وتقف الجزائر العربية أنصع مثال على ما نقول، دون أن نذكر القارئ بمحاولات طمس الهوية التي مارسها الفرنسي، ناهيك عن أكثر من 5 ملايين شهيد جزائري.

ويتم عقاب بريطانيا العظمى لسيدة مستعمراتها "عدن" على نار هادئة وبالنفس الإنجليزي الطويل والممل. فلا يعتقد أحد أن بريطانيا قد خرجت من عدن لتترك دولة الجبهة القومية تحقق الحلم الوطني لصالح الحالمين بحال أفضل من حال عدن المستعمرة، مما يغري دولا في المنطقة تعوم على بحيرة من نفط بتقليد الحالة الثورية في الجنوب. 

لقد جرى تشويه التجربة الوطنية بعناصر من داخلها، بحصار محكم من الجوار، وتوكيل رعاية الشكل غير النموذجي إلى قوة حليف لبريطانيا من خلف الستار، تستطيع إيقاف التمدد الأمريكي الساعي إلى بسط نفوذه على عدن بعد أن نجح تماما في وراثة بريطانيا في مناطق نفوذها في الخليج العربي، في لحظة غروب الشمس التي كانت لا تغرب عن بريطانيا.

سوف نفطن إلى كثير من حقائق التاريخ عند المراجعة المتأنية، فليس كل ما صنعته الدولة الوطنية في الجنوب كان سيئا، وليس ما صنعته بريطانيا برمته كان مثاليا وبمذاق العسل؛ فبين هذا وذاك تكمن تفاصيل كثيرة، ومن ذلك أن بريطانيا هي (عقادة العقد) على حد تعبير رئيس تحرير مجلة (العربي) الدكتور أحمد زكي - رحمه الله - في إحدى افتتاحياته الشهيرة، حيث تبقي بريطانيا مفاتيح هذه العقد في يدها دائما، ضاربا أمثلة من كشمير في الشرق إلى فلسطين في الوسط والسودان في الجنوب.

وفي كتاب الوجيه العدني السياسي المعروف محمد حسن عوبلي: "اغتيال بريطانيا لعدن والجنوب" بعض التفسير لسياسة بريطانيا تجاه عدن والجنوب منذ الاستقلال في 1967م حتى اليوم، وهي سياسة أقل ما يمكن تسميتها "ضرب تحت الحزام"، وإيصال الأمور إلى حافة الهاوية شعبيا، عبر أدواتها المحلية وغير المحلية، قبل أن تأتي بقوتها الناعمة لتحكم كيفما شاءت أن تحكم، في ظل توفير متطلبات حياتية وخدمات ميسرة وكرامة إنسانية هي غائبة اليوم، دون تطلع إلى تجريب آخر، بعد أن خبره المواطن وذاق ويلاته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى