الأزمة الأوكرانية الروسية.. نراع النفود والمصالح وموارد الطاقة

> دخلت دول آسيا الوسطى والقوقاز ومعها بقية الدول المستقلة بتقسيماتها الجديدة بما فيها أوكرانيا وروسيا في القسم الأوروبي في أوضاع اقتصادية وسياسية صعبة، فقد سبق انهيار الاتحاد السوفييتي وتفتت خريطته الجغرافية السياسية تدني الحالة الاقتصادية وجاءت عملية الانهيار لتضيف مزيد من التدهور الأمني والتفتت الأثني، وتحولت الدول التي كانت تحت علم واحد إلى دول متصارعة سياسيا ومتحاربة إما لتصفية حسابات قديمة أو سعيًا لمكانة جديدة.

بمعنى أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يتم بهدوء إنما صاحبه انفجار كبير في المنطقة ضاعف لديها المشاكل والأزمات الاقتصادية، وتبعًا لذلك نظرت الدول المجاورة لثروة بحر قزوين البحر الأسود وبخاصة النفط والغاز باهتمام بالغ، وسارعت إلى اقتناص الفرصة لترميم اقتصادها المنهار، الأمر الذي أدى إلى تضارب مصالحها إلى حد الحرب والاقتتال لأجل تلك الثروة، ومن جانبها سارعت بعض القوى الدولية الباحثة عن نفوذ لها في المنطقة والطامعة في ثرواتها مستغلة ما حدث من تغير في خريطتها السياسية وما تلاها من صراع بين دولها، لتبلور خريطة جديدة للصراع بين طرفين:

- إقليمي يتمثل بالدول المشاطئة لبحري قزوين والأسود.

- دولي خارجي يتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

أما روسيا فإنها تتصرف معتبرة نفسها الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي فهي تتشبث منذ عام 1991م من أجل الهيمنة على الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي، وتجتهد لتمنع تحول استقلال تلك الدول إلى استقلال حقيقي يجعلها صاحبة القرار في علاقاتها الدولية بما يمكن أن يفتح الباب واسعا للاختراق الأمني الغربي للمنطقة، وتطرح روسيا على الساحة السياسية الدولية عددًا من المبررات التي ترى أنها مبررات منطقية ومن الممكن أن تكون مقبولة، وأن على دول المنطقة والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مراعاتها وعدم تجاهلها، ومن أبرزها:

(الأمن القومي الروسي، الصراعات الأثنية في دول الجوار القريب وخطورة امتدادها إلى داخل روسيا، الدفاع عن مصالح الأقليات الروسية داخل تلك الدول)، في حين تسعى تلك الدول إلى امتلاك قرارها وترى أن من حقها أن تبني علاقاتها الخارجية بما يتفق مع مصالحها دون وصاية من روسيا عليها.

من جانبها، تسعى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى تشجيع تلك الدول ودعمها في مواجهة السياسة الروسية، وبما أن تلك الدول لا تمتلك التكنولوجيا ولا الأموال الكافية ولا القدرة للسيطرة على ثرواتها ومقدراتها وهي دول غنية بالنفط والغاز خاصة دول القوقاز وتحتاج لمن يساعدها على استثمار مواردها، فإن الولايات المتحدة قد سوقت نفسها لتكون الراعية لمصالح تلك لدول بعد استقلالها بتفكك الاتحاد السوفييتي، وحشدت معها التأييد الأوروبي، وطرحت هي الأخرى مبرراتها التي ترى أنها منطقية ومقبولة، بل مطلوبة من دول المنطقة مثل: (مساعدتها في مواجهة الإرهاب، ومساعدتها في حل الأزمات الاقتصادية عبر المنظمات الحكومية ومجموعات رجال الأعمال والمستثمرين وبالمعونات المالية المباشرة، والتدخل في حل النزاعات السياسية والأثنية في تلك البلدان).

وعليه، لا يمكن فهم الصراع الذي نشب عقب تفتت الاتحاد السوفييتي بين الدول التي كانت تمثله كالحرب بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم ناغورني قرة باخ، والحرب التي خاضتها جورجيا مع إقليمي أبخازيا وأوستيتا الجنوبية، ثم قيام روسيا بمهاجمة جورجيا في أغسطس 2008م ردًا على مهاجمة جورجيا إقليمي افخازيا واوستيتا الجنوبية، تلاها في عام 2014م اجتياح القوات الروسية لشبه جزيرة القرم ثم ضمها إلى روسيا والذي اعتبرته أوكرانيا ومعها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية احتلالًا وانتهاكًا للسيادة الأوكرانية، وما تلاها من أحداث في إقليم دونباس شرق أوكرانيا بدأت باحتياجات انفصالية وتطورت إلى مواجهة مسلحة بين القوات الأوكرانية والجماعات المسلحة الانفصالية المدعومة من روسيا انتهت بهزيمة القوات الأوكرانية بعد تدخل الجيش الروسي إلى جانب القوات الانفصالية في الإقليم.

لا يمكن فهم تطور ذلك الصراع بمعزل عن حقائق التاريخ والجغرافية لدول المنطقة، والأجندات الدولية المرتبطة بها، ولا بمعزل عن الصراع الروسي الأمريكي في المنطقة، بخلفياته التاريخية الممتدة إلى مرحلة الحرب الباردة والصراع السوفييتي الأمريكي في آسيا الوسطى وفي أفغانستان، فهو صراع نفوذ، صراع مصالح، صراع على مصادر الطاقة وطرق امدادها، في تلك المنطقة الاستراتيجية جغرافيًا التي تشكل محيطا جيوبولتيكيًا عالميًا مهما يعج بأجندات متباينة ضمن مساحته المكانية التي أضحت مصدرًا للقوة، فالذي يمسك بتلك المنطقة يمسك برقبة أو رأسيًا من خناقها، وتأتي الأزمة الأوكرانية الروسية المشتعلة اليوم مجسدة لتعقيدات الصراع الإقليمي والدولي في تلك المنطقة، التي تمثل لروسيا مجالًا حيويًا، أي تهديد يتعرض له ذلك المجال يعتبر تهديدًا لأمنها الوطني والقومي لا يمكن السكوت عنه، وبالتالي فهي تعارض مساعي الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا إلى ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وتعتبر هذه المساعي عملا مستفزا يجب أن يتوقف، وأن الإصرار على ذلك العمل يمثل تهديدا صريحا لأمنها ومصالحها، ورأت أن الرد الطبيعي والعملي على تهديد كهذا هو بالحشد العسكري الضخم الذي نشرته على الحدود بينها وبين أوكرانيا، وبالرغم من أن معظم التحليلات والتفسيرات التي يطرحها المحللون السياسيون ورجال السياسة ترجح حصول اجتياح روسي لأوكرانيا، بل تذهب بعضها إلى احتمال اشتعال حرب واسعة تدخل فيها الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، إلا أنني أستبعد دخول أوروبا أو أمريكا في مواجهة مباشرة مع الروس حتى وإن اجتاحت قواتها أوكرانيا، وأن عملهما سيقتصر على تقديم الدعم المالي والعسكري للحكومة والجيش الأوكرانيين، وفي فرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا، وأنني أتوقع أن الأزمة بشكل عام ستنتهي بحل دبلوماسي أكثر من كونها ستنتهي بعمل عسكري، لأن تبعات الحرب ستكون كبيرة على كل الأطراف، وفي تصوري أن الطرف الأوكراني ومعه الأمريكان والأوروبيون سيقدمون تنازلات أو ضمانات للروس بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وهذا إن حصل سيدفع الروس إلى التراجع عن القيام بعمل عسكري ضد أوكرانيا حتى وإن لم يحدث تفاهم في قضية إقليم الدونباس في أوكرانيا الذي يتخذ منه الروس مبررًا لذلك الحشد الذي يقولون انه من أجل حماية الأقلية المتكلمة بالروسية في الإقليم، لأن الهدف الحقيقي للروس هو دفع الخطر الغربي من على حدودهم ومنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى