خطوة بقدمين تصنع الفرق!

> وهب الدين العواضي/نجوى حسن

> الإعاقة كسبب لتوقف الحياة، وكنتيجة لاستمرار الحرب!
شبح الإعاقة.. وصعوبات نفسية في التكيّف مع المجتمع

تسببت الحرب المستعرة في اليمن منذ 2015 بوفاة المئات، وعجز الآلاف ممن فقدوا أعضاءهم، نتيجة الألغام والانفجارات والقذائف التي عمدت أطراف الحرب إلى استخدامها ضمن تكتيكاتها القتالية على امتداد مساحات شاسعة من المناطق التي تشهد مواجهات محتدمة.

تتحدث جميلة قاسم (45 سنة) لـ"خيوط"، عن معاناتها مع الإعاقة قائلة: "تمنيت الموت مرارًا، أشعر أني ميتةٌ لكني أتنفس، عاجزة عن الحركة، أعتمد كليًّا على زوجي وأطفالي!".

استيقظت جميلة ذات يومٍ، قبل خمس سنواتٍ على نصف جسد، بعد أن دخلت في غيبوبة لعدة أيام، لتكتشف أنها فقدت كلتا رجليها بفعل لغم أرضي وضعت قدميها عليه في تبّة (هضبة) بجوار منزلها في منطقة الحبيل بمديرية المظفر (غربي مدينة تعز).

كانت جميلة حينها ترعى الأغنام (الماشية) وتمشي خلفها، لكنها لم تكن تعلم بأن ذلك هو ممشاها الأخير!

تسرد جميلة قصتها لـ"خيوط"، قائلة: "صعدت الأغنام فجأة إلى التبّة، ركضت خلفها لإنزالها، لكن انفجارًا قويًّا هزني كأنني انفصلت عن جسمي، فقدت الوعي بعدها، لم أصحُ إلا في سرير المستشفى".

"حين صحوت، حاولت النزول عن السرير، فسقطت أرضًا، حينها فقط عرفت أني بتّ بلا قدمين"؛ تشرح جميلة حالها.

تعتمد جميلة، ككل الريفيين، على الأغنام للمساهمة في إعالة الأسرة. "كنت ربة بيت، أكفل جزءًا كبيرًا من مصاريف البيت عبر تربية وبيع الأغنام، وبيع الحليب والسمن، كانت أسرتي تعتمد على هذا المردود بشكل كبير؛ لأن زوجي كان حارسًا بجامعة تعز وراتبه لا يلبي متطلباتنا"، لكن بعد إصابتي قام زوجي ببيع الأغنام؛ لأنه لا أحد قادر على أن يعتني بهنَّ، غيري" تضيف جميلة.

استهدفت الألغام والمقذوفات بيئات النساء اليمنيات، مثل أماكن الرعي، والمزارع وأماكن الاحتطاب، والآبار وكذلك التجمعات السكنية والمخيمات.

تتحسر جميلة كثيرًا لوضعها الحالي، بعد أن أعاقها لغم أرضي وأخذ قدميها: "حين يكون الواحد منا قادرًا على المشي والتحرك، يقدر يعيش حياته ويأتي برزقه، لو كان فقيرًا فهو قادر على تصريف شؤون حياته، أشعر أني محبوسة في قفص، وأتمنى أن أمشي حتى خطوتين فقط".

استهداف بيئات النساء

تحظر اتفاقية "أوتاوا" 1997 زراعة الألغام أثناء الحروب، وكانت اليمن ضمن الدول التي وقّعت على تلك الاتفاقية في سبتمبر 1998، وفي مارس 1999 دخلت حيّز التنفيذ اليمني، لكن على الرغم من ذلك عمد أطراف الصراع إلى استخدام الألغام دون الالتزام بتلك الاتفاقية ودون أي اعتبار لحياة المواطنين.

في هذا الصدد، تقول عضو اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، القاضي إشراق المقطري، لـ"خيوط": "إن زراعة الألغام محرمةٌ دوليًّا؛ لأنها تودي بحياة الأبرياء وتتسبب بالكثير من الإعاقات والتشوهات"، موضحةً أن زراعة الألغام في اليمن منذ بداية الحرب وحتى اليوم، كانت مسؤوليتها تقع على عاتق جماعة أنصار الله (الحوثيين) التي تستخدمها بشكل كبير، إذ لم تظهر حالة لأي طرف آخر من أطراف الصراع.

وتضيف المقطري: "استهدفت الألغام والمقذوفات بيئات النساء اليمنيات، مثل أماكن الرعي، والمزارع وأماكن الاحتطاب، والآبار وكذلك التجمعات السكنية والمخيمات"، مضيفةً أن التقارير سواءً الصادرة من اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، أو فريق العقوبات، أو تقارير المنظمات الدولية، توصي جماعة أنصار الله (الحوثيين) بالتوقف عن زراعة الألغام وتسليم خرائط الأماكن الملغمة؛ لأنَّ خطرها يستمر لسنوات طويلة، ما يعني المزيد من الضحايا.

هذا وقد أشار تقرير "اليمن حدائق الموت" الصادر عن منظمة رايتس رادار لحقوق الإنسان - مقرها أمستردام بهولندا - أن عدد القتلى من المدنيين بالألغام خلال الفترة من 2015-2019، بلغ نحو 609 قتلى، مشيرًا إلى أن جماعة الحوثي مسؤولة عن مقتل 580 ضحية، بينهم 104 أطفال و60 امرأة و416 رجلًا، انفجرت بهم الألغام، يليها جماعات مسلحة أخرى، بينها تنظيمات متطرفة مسؤولة عن مقتل 105 ضحايا؛ بينهم 30 طفلًا، و7 نساء و68 رجلًا.

وبحسب التقرير، فقد بلغت حالات الإعاقة 601 حالة؛ بينهم 428 مدنيًّا، منهم 427 رجالًا و115 طفلًا، و59 امرأة، حيث تصدرت محافظة تعز المرتبة الأولى من حيث التوزيع الجغرافي لضحايا الإعاقة، بواقع 134 ضحية، تليها محافظة الحديدة بعدد 88 ضحية، ثم محافظة عدن بعدد 75 ضحية. ووفقًا للتقرير، تحتل جماعة الحوثي المركز الأول في المسؤولية عن سقوط العدد الأكبر من ضحايا الإعاقة والإصابة بعدد بلغ 457 ضحية؛ بينهم 288 رجلًا، و113 طفلًا و56 امرأة.

انعكاسات نفسية

مع استمرار الحرب وارتفاع ضحايا الألغام، تؤكد المقطري على ضرورة الضغط الفعلي والملموس على جماعة أنصار الله (الحوثيين) للتوقف عن زراعة الألغام، وإدانتهم إدانة مباشرة جراء ما وصفتها بأنها "جريمة جسيمة".

وبحرقة تتحدث جميلة كيف أنها تعرضت للخذلان بسبب إصابتها: "الشخص حين يعاق لا أحد يلتفت له أبدًا، لا دولة تكفله ولا مجتمع يساعده".

في هذا الخصوص، يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز الدكتور، محمود البكاري، أن أرقام الإعاقات تزداد مع استمرار الحرب، بالتزامن مع تعاظم معاناة المواطنين ذوي الإعاقة الذين يفتقرون لأبسط مقومات وإمكانيات الاندماج بالبيئات المحيطة.

ويضيف البكاري لـ"خيوط"، أن الإعاقات يترتب عليها مشاكل نفسية واجتماعية وصحية لا يستطيع المعاق تحملها؛ سواءً كان رجلًا أم امرأة لافتًا إلى ضرورة حصول المعاق على دعم اجتماعي من البيئة المحيطة به، خصوصًا الأسرة والأهل والأقارب والجيران، مع أهمية التحفيز الدائم ليتسنّى له الاندماج مع المجتمع والتوقف عن التفكير بأنه أصبح عالة على الآخرين.

وينوّه البكاري إلى ضرورة ألَّا ينحو المعاق نحو العزلة والتقوقع على ذاته؛ لأن الأثر النفسي سيتعقد ويزداد سوءًا، ولذا يجب أن يظل في حاضنة المجتمع.

"بعد إصابتي ساءت حالتي النفسية ولم أستطِع النوم، لدرجة أني كنت أتعاطى حبوب المنوِّم، في ذات الوقت كنت لا أطيق أحدًا بقربي"، تقول جميلة.

في السياق ذاته، تؤكد الاختصاصية النفسية، ريم العبسي، في حديث لـ"خيوط"، أن "الاضطرابات النفسية تتركز بشكل أكبر في الإناث أكثر من الذكور بسبب الإعاقة؛ لأن جسد المرأة وسلامة شكله هو الشيء الأساسي الذي يجعلها تقدّر ذاتها ويعزز شعورها بأنوثتها، وحدوث أي تشوهات يضعها في حالة من الاضطرابات قد تدخلها في حالة من الإحباط والاكتئاب المزمن".

وتشير العبسي إلى أن الاضطرابات تستمر لاحقًا بفعل "feed back" أي إعادة ذكريات الحادث الأليم الذي مرّ به وتسبب في إعاقته؛ الأمر الذي يعيده إلى نقطة الصفر كلما حاول تجاوز الصدمة، وهنا يجب أن يخضع المريض لجلسات نفسية مطولة ومنتظمة حتى يستطيع أن يتجاوز الحالة تمامًا ويصل إلى مرحلة الرضا والتقبل، والتكيّف مع الإعاقة. لافتةً إلى أنه عند عدم خضوع المريض للدعم والتأهيل النفسي، قد يندفع نحو أفكار سوداوية، منها الانتحار.



"جالس في البيت طوال الوقت، ومش قادر أصرف على أولادي" بهذه الكلمات افتتح مروان العمري (36 عامًا) من سكان محافظة تعز حديثه لـ"خيوط". مروان شاب يمني فقد عمله بسبب إعاقته، وهو أب لأربعة أطفال، تتراوح أعمارهم بين السنة وثمان سنوات، يعتمد على تدريس أكبر بناته على نفقة فاعلي الخير؛ حد تصريحه.

لم يتلقَ الدعم من أي جهات حكومية أو منظمات دولية، حيث يعتمد فقط على مساعدة فاعلي الخير، ولكنها لا تفي بالغرض لعدم استمرارها، كما أنه المعيل الوحيد لأسرته.

يعيش مروان وضعًا مأساويًّا، ويفتقر لأبسط مقومات الحياة، فهو واحد من بين الكثير ممن فقدوا أعمالهم بسبب إعاقات الحرب، والتي لا توجد أي إحصائيات رسميّة ترصد أعدادهم.

هذا وكان مروان قد فقد والده واثنين من أشقائه إلى جانب إعاقة والدته، نتيجة قذيفة سقطت على منزلهم منذ ست سنوات.

يروي العمري معاناته مع الإعاقة قائلًا: "فقدت جميع أصابع قدمي اليمنى، وثلاث من اليسرى، تشوّهت يدي وفقدت حركتها بشكل جزئي"، مضيفًا: "خضعت لعملية جراحية، كلفتني مليونًا وتسعمائة وعشرين ألف ريال، ما يقارب 1800 دولار، إذ كلّف بتر الأصبع الواحدة خمسين ألف ريال، مع العلم أن المبلغ تبرّع به فاعلو خير وبعض الأصدقاء".

آثار النفسية

يتأثر مبتورو الأطراف نفسيًا، وقد يصل بهم التأثر إلى الدخول في حالة انهيار واكتئاب ملازم، إذ كما يقول مروان إن الإعاقة أرهقته نفسيًا: "كلما نظرت لإعاقتي وعجزي عن الوفاء بمتطلبات أسرتي، تسوَدّ الدنيا بوجهي".

وفي نفس السياق يؤكد اختصاصي الدعم النفسي والاجتماعي وديع المخلافي في حديث لـ"خيوط"، أن مبتوري الأطراف يواجهون صعوبات نفسية في التكيّف مع الذات ومع البيئة الاجتماعية، والمادية، كما يجدون صعوبة في العودة لممارسة حياتهم الطبيعية، نتيجة للتغيّرات التي طرأت على أجسادهم.

ويشير المخلافي إلى أن أهم الأعراض والآثار النفسية للبتر هي ما يعرف بـ"الصورة السلبية للجسد"، وتعني أن الأشخاص الذين يتعرضون لفقدان أحد أطرافهم، يتأثر لديهم نفسيًا احترامهم وتقديرهم لذاتهم، علاوة على الشعور بالقلق والتوتر، وهي أعراض قد يصعب السيطرة عليها، أو التعامل معها بسهولة.

من جانبه يؤكد مدير مركز الأطراف بمستشفى الثورة بمحافظة تعز، الدكتور منصور الوازعي، أن أغلب الحالات التي يستقبلها المركز تعاني حالة انهيار، نتيجة البتر وما أعقبه من جلوس في البيوت لفترات تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أشهر.

يعتبر الدعم النفسي والاجتماعي للأشخاص المبتورين جزء أساسي من عملية التأهيل والرعاية النفسية. "يقدم مركز الأطراف خدمات مجانية، منها: الأطراف الصناعية، والأجهزة التعويضية، وجلسات العلاج الطبيعي، وإعادة تأهيل الحركة، إضافة إلى الدعم النفسي" يقول الوازعي.

تنمُّر وإقصاء

يواجه المبتورون تنمُّرًا مجتمعيًا، بسبب قلة الوعى لدى الأفراد، وقصور أداء الجهات المعنية بالتوعية والإرشاد، يقول العمري: "يناديني الناس يا معاق، أو يد مقص أنت مش محسوب إنسان"، ويعقب: "هذا التعامل أفقدني الثقة بنفسي، وزاد إحساسي بالعدمية وقلة الفائدة".

كما يعاني ذوو الإعاقة من تهميش حتى في أبسط حقوقهم، على الرغم من تفاقم أعدادهم نتيجة الحرب. تتحدث الناشطة مها عون لـ"خيوط" قائلة: "دور الجهات المعنية مغيّب تمامًا خاصة في فترة الحرب، وأغلب المساهمات والإغاثات المقدّمة لهذه الشريحة عادة تقدمها منظمات المجتمع المدني وفاعلو الخير". وتضيف عون: "قد تبادر جهات مختصة لتقديم بعض المعونة لكن ليس للذين فقدوا أطرافهم كمتضررين".

وتتحدث عون عن أهمية دور الناشطين ومنظمات المجتمع المدني في إيصال أصواتهم والضغط على صنّاع القرار من أجل الوصول لحلٍّ يخفف من حدة معاناتهم".

الجدير بالذكر أن عددًا من اضطروا لعمليات البتر في محافظة تعز بلغ ما يقارب 800 شخص، منهم ما يقارب 70% من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 32 عامًا، من بينهم 59 امرأة و36 طفلًا، بحسب تصريح مدير مركز الأطراف بمستشفى الثورة في تعز، الذي أشار أيضًا إلى أن 70 % من الإصابات تقريبًا سببتها الألغام الأرضية، التي عمدت جماعة أنصار الله "الحوثيين" على زراعتها في مناطق خط النار، والمناطق المسيطرة عليها بتعز، إضافة لإصابات أخرى كان سببها قذائف الهاون والقنص".

على صعيد متصل قالت منظمة العفو الدولية إن نسبة ذوي الإعاقة تصل إلى 15 % من إجمالي عدد سكان اليمن المقدّر عددهم بنحو 30 مليون نسمة، إذ لا توجد إحصائية رسمية لدى السلطات المختصة في اليمن.

يحلم العمري أن تنتهي الحرب، التي قد تتسبب بإيذاء وإصابة آخرين، ويتطلع إلى أن يتم الالتفات لهم وإيجاد حلول عملية تساعد على أن يستأنفوا أعمالهم التي تعيل أسرهم.

"خيوط"
مروان وشبح الإعاقة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى