قصة محمد الصغير
ثم أخذ أبي يدي بيديه بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت: يا بني، إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً. وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك، فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرّض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال «ديوان التفتيش».
فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي. وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش وأرى ضحاياه كل يوم (وأنا غاد إلى المدرسة ورائح منها)؛ فمن رجال يُصلبون أو يُحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن أو تبقر بطونهن ... فسكتُّ ولم أُجِبْ.
فقال لي أبي: مالك لا تجيب! أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟
قلت: نعم.
قال: تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟
قلت: نعم.
قال: اقترب مني. أَرهِفْ سمعك جيداً فإني لا أقدر أن أرفع صوتي؛ أخشى أن تكون للحيطان آذان تسمعني فتشي بي إلى ديوان التفتيش ... فيحرقني حياً.
فاقتربت منه وقلت له: إني مُصغٍ يا أبت.
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف وقال: أتعرف هذا الكتاب يا بني؟
قلت: لا.
قال: هذا كتاب الله.
قلت: الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله.
فاضطرب وقال: كلا؛ هذا هو القرآن الذي أنزله الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله، النبي العربي، صلى الله عليه وسلم.
ففتحت عيني من الدهشة، ولم أكد أفهم شيئاً.
قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة. فظهر هناك ... وراء البحار والبوادي ... في الصحراء البعيدة القاحلة ... في مكة، في قوم بداة مختلفين، مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد، وأعطاهم به الاتحاد والقوة، والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة، إلى إسبانيا. وكان ملكها جباراً عاتياً وحكومتها ظالمة غاشمة وشعبها مظلوماً فقيراً جاهلاً متأخراً، فقتلوا الملك الجبار، وأزالوا الحكومة الظالمة، وملكوا الأمر في إسبانيا، فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم، وأمّنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمئة سنة ... ثمانمئة سنة، جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا. نعم يا بني، نحن العرب المسلمين..
فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به: ماذا؟! نحن؟ ... العرب المسلمين! ..تتمة القصة غدا..