الحاكم البريطاني الأخير لهونغ كونغ يدافع عن «انتزاع الحرية»

> روي سوليفان

> تزامنًا مع نشر مذكراته من فترة شغله المنصب يقول اللورد باتون إن الحركة المطالبة بالديموقراطية تعتبر "خطرًا وجوديًا" في عيون بكين.

منذ ربع قرن غربت الشمس أخيرًا عن آخر معاقل الإمبراطورية البريطانية، ففي احتفال مهيب أعادت المملكة المتحدة هونغ كونغ، الملكية الإمبريالية التي ظلت متمسكة بها أكثر من 150 عامًا، إلى الصين.

ودعت الإدارة الاستعمارية المكان للمرة الأخيرة مع صعود كريس باتن، الوزير السابق عن حزب المحافظين الذي شغل منصب آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ، على متن "بريتانيا"، اليخت الملكي لصاحبة الجلالة، في 30 من يونيو 1997.

ويقول فيما يفكر في مكان سكنه خمسة أعوام: "كانت مدينة مذهلة. ومثل كثير من المدن المرفئية العظيمة تميزت بانفتاحها الكبير على الخارج ونجاحها الباهر" وأضاف، "بي إعجاب شديد لشعب هونغ كونغ شديد الجرأة والكرم".

يحمل استذكار اللورد باتن لهونغ كونغ بكثير من الحنين كتقديره لرزانة شعبها دلالات كثيرة، فقد أصبح المكان اليوم في غاية الاختلاف عن ذلك الذي غادره، لا سيما بعد قمع بكين العنيف للحريات الفردية في أعقاب موجة من التظاهرات الجماهيرية التي عمت الإقليم في العام 2019.

ويعد أخطر تقويض للحريات شهدته هونغ كونغ فرض بكين قانون الأمن القومي في صيف العام 2020.

بموجب صلاحيات القانون الواسعة سُجن الناشطون المنادون بالديمقراطية بتهم تشمل إثارة الفتن والقيام بأنشطة الهدامة. قرر آلاف مواطني هونغ كونغ بالتالي الهرب من بلدهم الأم نتيجة الوضع السياسي المتفاقم.

ويصف باتن مزاجه على خلفية هذه الأعمال القمعية بـ "الحزن الشديد".

ويقول لافتًا إلى العهد الذي قطعته بكين على نفسها بالالتزام بسياسة "بلد واحد ونظامان" حتى العام 2047، قبل أن تعود لتنكثه: "لن أخوض في التفاصيل ولكن بعض الأشخاص الذين سجنوا هم أصدقائي. تعامل الصينيون مع الموضوع من منطلق الانتقام الشامل".

وقال اللورد البريطاني إنه لا يمكن التشديد بما يكفي على أهمية نضال الإقليم ضد الاستبداد، ويكتب في الفصل الختامي لكتابه يوميات هونغ كونغ، شهادته المعاصرة عن مدة حكمه، "إن نضال هونغ كونغ لانتزاع الحرية والحريات الفردية والكرامة هو نضالنا نحن كذلك"، لكن العلاقة بين الديمقراطية وهونغ كونغ لم تكن دائمًا وثيقة. بعد زيارته الأولى إلى هونغ كونغ عندما كان نائبًا فتًى في العام 1979، كتب باتن مقالة في الصحافة البريطانية دعا فيها إلى إجراء انتخابات مباشرة لحكومة هونغ كونغ المحلية، وهو اقتراح يعترف بأنه "لم يلق أي استحسان" من حاكم الإقليم آنذاك.

بعد ذلك بسنوات عدة حاول تيدي يود، القائد التالي لهونغ كونغ، "بلا شك أن يسرع من وتيرة التنمية الثابتة للديمقراطية" ولكنه واجه معارضة، كما يقول باتن.

حين تسلم باتن منصبه في يوليو 1992 بعد خسارته مقعده النيابي عن جنوب غرب البلاد في الانتخابات البريطانية العامة، كان في هونغ كونغ هيئة تشريعية منتخبة جزئيًا، لكن باعترافه الشخصي كانت لا تزال بعيدة من النظام الديمقراطي الكامل، ويقول عن تعيينه: "إن سكان باث هم من انتخبوا حاكم هونغ كونغ"، لكن الأمور كانت تتغير بسرعة في هونغ كونغ، بنظر الرئيس السابق لحزب المحافظين، مدفوعة بالمخاوف التي أثارها ارتكاب الحكومة الصينية مجزرة بحق الطلاب في ساحة تيانانمن في بكين في العام 1989.

ويقول باتن لـ "إندبندنت" أثناء تناول القهوة في منزله الكائن غرب لندن: "كان في هونغ كونغ شبكة من الحريات وأراد الناس مزيدًا منها. أرادوا مزيدًا من الديمقراطية".

"وما كان علينا أن نفعله، بين العامين 1992 و1997 طبعًا، وعلى الأقل في أعقاب شعور الناس بالقلق بسبب تيانانمن، هو إشراك الشعب في هونغ كونغ في تقرير عدد من الأمور الإضافية التي يمكننا أن نقوم بها من دون هدم البنيان القائم".

واجهت إدارته مشكلة التعرض للانتقاد من الصين ومن بعض أعضاء وزارة الخارجية ومجتمع الأعمال البريطاني على حد سواء، إذ اعتبر هؤلاء بأن استفزاز بكين في الفترة السابقة لتسليم الإقليم تصرف غير حكيم.

وكان السير بيرسي كرادوك، الباحث الرائد في الشؤون الصينية الذي أسهم في وضع الإعلان المشترك الذي قام على أساسه الانسحاب البريطاني من هونغ كونغ بعد انتهاء الفترة المنصوص عليها في عقد الإيجار في صيف 1997، من أشد منتقدي باتن في بريطانيا، لكن باتن يحاجج بأن المشككين أمثال كرادوك كانوا مصابين "بعمى البصيرة" إزاء التغيير الذي طرأ على الأجواء بعد العام 1989: "كان من المستحيل أن نقول للناس بعد ما حدث في تيانانمن "لن نعير هواجسكم أي اهتمام.

ويقلل باتن، الذي يشغل في الوقت الحالي منصب رئيس جامعة أكسفورد، من أهمية من اعتبروا أنه كان الأحرى بالمملكة المتحدة أن تعطي الأولوية لعلاقتها الاقتصادية مع الصين، بدل القضايا السياسية في هونغ كونغ.

وهو يعتبر أنه كان من الخطأ التعامل مع هونغ كونغ كأنها "عثرة مزعجة في طريق" العلاقة، نظرًا لكونها من أكبر الدوائر التجارية في العالم كما كان من الخطأ التفكير بأن المصالح التجارية البريطانية في بر الصين الرئيس ستتأثر سلبًا بالمشاحنات الدبلوماسية.

وسعيًا لتعزيز وجهة نظره، يصف الرجل البالغ من العمر 78 عامًا التغييرات الديمقراطية التي حصلت في هونغ كونغ في منتصف تسعينيات القرن الماضي بأنها "شديدة الاعتدال"، ويشرح بأنه فيما خفض سن الاقتراع إلى 18 عامًا، وأصبح السكان قادرين على التصويت في دوائر انتخابية يحددها نوع مهنتهم، لم يزد عدد المقاعد الانتخابية الخاضعة للانتخاب المباشر. ويقول، "لم تكن أي خطوة جذرية".

ويضيف: "لطالما اعتقدت أن من دواعي الإطراء أن تصورني الدعاية الصينية على أنني شبيه توماس باين الحديث".

ما زال بعض الأشخاص لا يستسيغون مقاربة بريطانيا لهونغ كونغ في سنوات حكمها الأخيرة للإقليم، وفي هذا الإطار يقول رجل أعمال بريطاني انتقل إلى الإقليم أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بأن الرغبة في إدخال المزيد من الديمقراطية على نظامها السياسي بعد عقود من الاستعمار شكّل "قراءة غريبة للوضع".

وإذ أدلى بحديثه شرط إخفاء هويته، عبر عن اعتقاده بأنه كان على المملكة المتحدة التصرف بشكل أقل عدوانية تجاه بكين، قائلًا إن بريطانيا دست البارود تحت هونغ كونغ بدل أن تركز على استمرار ازدهارها.

وأضاف رجل الأعمال في تعليق على التغييرات الديمقراطية: "أفلت باتن بفعلته طوال جيل"، لافتًا إلى أن هذه التغييرات لعبت دورًا في مسار الأمور لاحقًا، وردًا على هذا الشكل من الانتقاد يعتقد باتن أن "من المهين" اعتبار سكان هونغ كونغ، الذين كان العديد منهم من اللاجئين السياسيين الهاربين من بر الصين الرئيس، مهتمين فقط في المال وليس في السياسة، كما يرى بأن السياسات البريطانية لم تكن مسؤولة ألبتة عن الانتفاضة الأخيرة في هونغ كونغ، التي يعزوها كليًا إلى قيادة الصين الحالية.

ويقول: "أعتقد فعلًا بأن مسار الأمور لم يكن سيئًا قبل قدوم شي جينبينغ. كانت هونغ كونغ على حالها ولا شك في أن الوضع تغير مع شي".

بدأ القائد الصيني الذي تولى الرئاسة في العام 2013 باستهداف حرية التعبير وغيرها من القيم الديمقراطية الليبرالية، كما يضيف باتن، ويشير إلى أنه لم يكن من المفاجئ أبدًا أنه سرعان ما انصب تركيزه هو ومساعدوه على المستعمرة البريطانية السابقة. "أعتقد أن هونغ كونغ تمثل بالنسبة إلى شي تجسيدًا لذلك الخطر الوجودي".

وفي عالم تهدد فيه الدول غير الليبرالية مثل الصين وروسيا الاستقرار العام، فما يريده باتن هو رؤية الديمقراطيات الليبرالية "تقف صفًا واحدًا بشكل لم نقم به قبلًا إجمالًا".

وهو يذكر على سبيل المثال قرار الصين بفرض حظر على استيراد بعض السلع الأسترالية بعد مطالبة كانبيرا منظمة الصحة العالمية التحقيق في تغطية بكين المزعومة لبداية انتشار "كوفيد - 19 ".

ويقول باتن: "عندما يحل أمر مشابه بديموقراطية أخرى علينا جميعًا الوقوف جنبها. لا أؤيد اندلاع حرب باردة جديدة ولا احتواء الصين، ولكنني مع كبح جماح الصين حين تسيء التصرف".

ويلفت باتن إلى أن انتكاسة الديمقراطية في الولايات المتحدة قد تشكل مأزقًا في طريق السعي إلى التوصل لمقاربة مشتركة ضد الصين.

"لن نحقق المطلوب إلا إن عملت أميركا مع أوروبا، وما لم تثبت أميركا فعلًا إيمانها بالديمقراطية فسوف يواجهنا وقت عصيب للغاية. لست متأكدًا في الوقت الحالي من أن قيادة الحزب الجمهوري تؤمن بالديمقراطية بالفعل".

أما العائق الثاني المحتمل فهو المناوشات المستمرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في شأن ترتيبات ما بعد "بريكست"، كما يقول.

إنما بشكل عام، يعتقد باتن بأن موقف بريطانيا يتحسن إزاء بكين: "برأيي كانت الحكومة البريطانية حتى وقت قريب تمارس الازدواجية في موضوع الصين. لقد تعافت مما سمي "الحقبة الذهبية" للعلاقات مع الصين في ظل حكم كاميرون وأوزبورن، وكانت فترة هائلة ومذلة من خداع الذات".

يعود النقاش إلى هونغ كونغ مجددًا، قبل أن ينتقل إلى تأمل أوسع في سوء أحوال العالم.

ويقول باتن: "أعيش الآن في حال من الكآبة والقلق المستمرين بسبب هذا الموضوع. كنت أحرر مذكراتي فيما أقرأ في الوقت نفسه رسائل إلكترونية من أصدقاء، وأتابع ما يحدث من تهديم للمواطنة في هونغ كونغ. لم تكن تجربة سعيدة".

بعدها، يغير آخر حاكم في ظل الاستعمار البريطاني الموضوع ليتحدث عن كتاب شتيفان تسفايغ عالم الأمس، وهو "كتاب محبط عن هبوط الظلام على أوروبا".

بعد يوم من إرساله مخطوطة الكتاب إلى دار النشر انتحر تسفايغ وزوجته متأثران بألمهما من الشر الذي يجثم فوق قارتهما.

يقول باتن إن تسفايغ كان ليبهر بالتقدم المحرز خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي بعد هزيمة الفاشية، ويضيف أنه من الممكن تحسين العالم من جديد على غرار ما حدث عندها.

"قد تسير الأمور بشكل جيد مرة ثانية. هل سيحدث ذلك؟ من يعلم. لن أبقى حيًا بحيث أرى هذا".

"يوميات هونغ كونغ" بقلم كريس باتن، تصدر عن آلن لاين، في 21 يونيو.

"إندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى