حرب من نوع خاص قضيتها في العاصمة الساحرة عدن

> شيماء مطر

> "يا طائرة طيري على بندر عدن.. زاد الهوى.. زاد الشجن.. دى جنة الدنيا"، كانت كلمات الفنان أبو بكر سالم لسان حالي وأنا في طريقي إلى العاصمة عدن، جنوب اليمن، التي شرفت بدعوة لزيارتها، تلك المدينة المحررة من قبضة الحوثي، والتي تعيش في زمن السلم بعيدة عن المعارك الدائرة ضد ميليشيات الحوثي الإرهابية، ولكني لم أكن أتصور يوماً أنّني سأعيش ما هو أسوأ من تلك الحرب وأشد رعباً من دوي مدافعها، خاصة بعد أن اشتعلت الأوضاع مجدداً في جنوب اليمن، وانطلقت حرب لكنها ليست كسابقاتها. إنها حرب خدمات تساق ضد المحافظات المحررة من قبضة الحوثي وأذرع الإرهاب "الإخوان والقاعدة"، فلا كهرباء ولا بترول ولا ماء ولا رواتب.

شيماء
شيماء
أمضيت أياما عدة في زيارة أسر شهداء في أماكن متفرقة بالعاصمة عدن، كدت أن أذوب في جمال الأرض فكل منطقة غنية بجمال الطبيعة الخلابة، وبأصالة شعب عميق في جراحه، إنها أرض ساحرة بكل ما تعنيه الكلمة من معني، وعايشت ليالي من العتمة وسط الطبيعة الساحرة مع أهالي الجرحى والشهداء، إنها معاناة من نوع آخر، حيث انقطاع الكهرباء الذى تجاوز في بعض الأوقات 16 ساعة باليوم، وقد لا تأت الكهرباء سوى أربعة ساعات فقط في ظل ارتفاع درجات الحرارة التي وصلت إلى أكثر من 40 درجة مئوية.

كانت إحدى العائلات التي زرتها أحيت قبل يوم من زيارتي لها مرور سبعة سنوات على استشهاد ابنهم الأكبر على يد قناص لميليشيات الحوثي. بينما ما زال يعاني الابن الأصغر من آثار جروح من جراء شظايا أصيب بها في أحد المعارك ضد ميليشيات الحوثي الإرهابية.

شعرت أحياناً بالصدمة مما عايشته مع الجرحى وأسر الشهداء في عدن، رغم معرفتي مسبقاً بالوضع الصعب الذي تمرّ به البلاد من آثار حرب، لكن رؤية مرضى وجرحى لا يستطيعون الاحتفاظ بحقن وعلب أدوية في الثلاجة لانقطاع الكهرباء المستمر في منازلهم، ويضطرون إلى الذهاب في اليوم أكثر من مرة لصيدلي تطوع بتخزين الأدوية بصيدليته التي يمتلك بها مولدا كهربائيا، خوفا من تلفها، وفي بعض الأحيان لا يجدوا وقودا لسيارتهم للوصول إليه، ما ترك شعورا بالمرارة لا يوصف.

أزمة نقص بترول طاحنة شعرت بها منذ أن استقليت سيارة من مطار عدن في طريقها إلى الفندق، حيث سمعت السائق يتحدث في تليفون ويبدو عليه الانزعاج: "لا يوجد بترول.. والأزمة مستمرة لأسبوعين"، وحاول السائق أن يجرى اتصالات عدة للعثور على بترول خاصة أن العربية كادت أن ينفد منها البنزين.

ظننت أنها أزمة مؤقتة، إلا أنه أصبحت تتكرر أمامي عبارات من هذا القبيل: "لا استطيع اليوم التحرك لعدم إيجاد بترول للسيارة"، "البترول في السيارة لا يكفي للوصول إلى العمل ".. وبات مشهد اصطفاف طوابير طويلة من المركبات أمام محطات الوقود طبيعيًا.

وخلال طريقي إلى الفندق لاحظت صورًا لشهداء قيادات بالجيش اليمني تم استهدافهم خلال عمليات إرهابية من قبل طيارات مسيرة للحوثي، ولاحظت أعلام دولة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" (دولة اليمن الجنوبي سابقًا) مرسومة على الجدران ومرفوعة فوق أغلب مباني العاصمة عدن، بينما تنتشر الحواجز العسكرية، توقف السيارات وتفتشها، وتدقّق في هويات ركابها.. يشير أحدهم إلي متسائلا: من أين أتيت؟ يرد السائق اليمني: "من مصر".. وسرعان ما يقول الجندى: "افتحوا الطريق لمصر أم الدنيا"، ليمنحني ترحيب النقاط العسكرية بعدن، شعورا ممزوجا بالطمأنينة والفخر، هو أسمى وأول ترحيب بي بعدن وأدركت أنّى في مدينة آمنة تعشق مصر والمصريين.

وصلت الفندق الذي كان يطل على شريط ساحل بحر العرب، وصوت الغربان ما زال يحاوطنا في كل مكان بالمدينة الساحرة. تخفق قلوبنا أحيانا، وكأن ثمة أمر ما يريد أن ينبهنا إليه أصوات الغربان.

فقد اكتشف علماء متخصصون في جامعة "إكستر" البريطانية، أن صوت طائر الغراب، يمكنه أن يكتشف الأشخاص السيئين والخطيرين، وخاصة إن كانوا غريبين عن المدينة.

ويبدو أنه في الساعة الواحدة تنقطع خلالها الكهرباء أكثر من مرة، ولحسن الحظ أن بالفندق مولدات كهرباء.. بينما خارج الفندق تشعر بمعاناة الشعب الحقيقة والتي تزداد خلال أشهر فصل الصيف حيث تتفاقم الوضع سوءًا في ظل ارتفاع درجات الحرارة مع انقطاع الكهرباء .

ما يعمق المعاناة، سيناريو متكرر في انقطاع المياه، بسبب تضرر شبكة التوزيع في الحرب وعجز مؤسسة المياه عن صيانتها وتجهيزها بسبب إفلاسها وعدم وجود الدعم الحكومي، وأصبح الحصول على الماء في العاصمة عدن أمراً صعباً ويشكل عناءً على المواطنين مما يضطرهم أحياناً إلى شراء الماء بأثمان باهظة.

وظننت خلال زيارتي لمدينة عدن، أن من لا يمت في الحرب بالقذائف، ستنهكه حرب الخدمات، فعلى الرغم من أن الحرب في عدن انتهت في يوليو 2015، ومنذ ذلك الحين عجزت الحكومات المتعاقبة عن تحسين الخدمات.

عدن
عدن

لذا أرى أن الحدث والحادثتان التي جرت وقائعها خلال زيارتي العاصمة عدن جنوب اليمن، لا بد أن تترك آثارها على الواقع الاجتماعي والسياسي اليمني لفترة مقبلة.

الحدث هو انعقاد الدورة البرلمانية الخامسة للجمعية الوطنية، البرلمان الجنوبي، في العاصمة عدن، التي تعد الممثل لمطالب وأصوات الشعب في المحافظات المحررة جنوبي اليمن، والمنوط بمناقشة المشاكل والمعاناة الشعب في جنوب اليمن، وإيصال تلك المعاناة إلى المجلس الرئاسي.

وتمثل دلالة توقيت انعقاد الدورة البرلمانية الخامسة للجمعية الوطنية أهمية قصوى، في ظل تطورات ومستجدات هامة جداً خصوصاً أنها تأتي بعد إعلان نقل السلطة للمجلس القيادي الرئاسي من الرئيس عبدربه منصور هادي، وتأتي أيضاً بعد انتهاء مشاورات الرياض والنتائج الإيجابية التي خرجت بها تلك المشاورات وانتقال سلطة وهيئات الدولة إلى العاصمة عدن، إضافة إلى أنها تأتي في ظل تعقيد الأوضاع المعيشية والخدماتية التي يعاني منها شعب المحافظات المحررة الواقعة في جنوب اليمن منذ فترة طويلة، ويتطلع الشعب بالمحافظات المحررة إلى تحسين الخدمات في ظل نقل السلطة ووصول قيادات الدولة وبناء مؤسساتها في العاصمة عدن.

وكان لملف حرب الخدمات الدائرة في عدن النصيب الأكبر من الرسائل المباشرة التي انبعثت من الدورة البرلمانية الخامسة للجمعية الوطنية، برلمان الجنوب، وعلى رأسها كلمة رئيس برلمان الجنوب اللواء أحمد سعيد بن بريك قائلا: "نحن لا نريد شيئا من مجلس الرئاسة خلال الـ 6 الأشهر المقبلة أو خلال هذه السنة غير توفير الكهرباء والماء والصحة والتعليم ودفع الرواتب".

وحدد "بن بريك" ما ينبغي على مجلس القيادة الذي يرأسه رشاد العليمي اتباعه لمواجهة الأزمات الإنسانية الطاحنة التى أثقلت كاهل شعب أنكهته الحروب قائلا: لا أرى حكومة تدير شؤون بلادها عبر الواتس إلا في اليمن، ولا يصح أن تعيش في نعيم بينما يعاني الشعب من الكوليرا والأمراض والجوع"، مستنكرا أن تعيش الحكومة في عالمهم منقطعون عن الواقع، خاصة أنها متواجدة أغلب الوقت خارج البلاد.

وطالب "بن بريك" بضرورة البدء في المعالجات السريعة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدمية، والعمل فورا على استقرار سعر العملة ومعالجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية المختلفة التي تتفاقم يوم عن يوم دون حسيب أو رقيب".

وقال بن بريك: "اليوم نحن نتجه مع التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية وبقية الدول من أجل الانتصار للمشروع العربي، ومن خلال مجلس القيادة الرئاسي لحل المعضلات السريعة التي تتعلق بالكهرباء والمياه والتعليم والصحة ودفع المرتبات.

وبحسب القوانين والمواثيق الدولية فإن توفير الخدمات الأساسية حق لكل إنسان، ويقع واجب توفيرها على عاتق الدولة، فهي ملزمة بأن تحترم هذا الحق وتحميه وتنفذه، وأي إهمال أو حرمان يعد من قبيل الانتهاكات لحقوق الإنسان.

وعن زمن السلم في اليمن، كان اللافت للنظر كلمات الرئيس عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي، المشددة على مطالب لسلام حقيقي قائلا: "فإننا من على الأرض سنقرر كيف يكون السلام، السلام الذي يضمن تحقيق ما حاربنا وقدمنا التضحيات من أجله، وليس السلام البعيد عن الواقع، فهذه التضحيات الجسيمة لن تقبل سلاماً قاصراً وغير صالحاً لا يمكن تطبيقه والبناء عليه"، في إشارة إلى ضرورة تأمين مستقبل السياسي والاجتماعي والأمنية والاقتصادية لكافة المحافظات الجنوبية المحررة.

وشدد رئيس المجلس الانتقالي على أن مجلس القيادة الرئاسي يضع معاناة المواطن في العاصمة عدن وعموم المحافظات المحررة في ظل ما يعايشه من غلاء المعيشة وتردي الخدمات وشح الدخل في صدارة أولوياتنا، وقد حرصنا على أن تكون الأولوية لإصلاح أوضاع العاصمة عدن، وبذلنا جهودًا دؤوبة للحد من تداعيات الوضع المتردي للخدمات فيها، شاكرين الاستجابة السـريعة للأشقاء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت لمعالجة بعض الملفات العاجلة، واستعدادهم لدعم جملة من المشاريع الخدمية في العاصمة عدن وسائر المحافظات المحررة.

وتطرق "الزبيدي" إلى شراكة المجلس الانتقالي الجنوبي الحالية في مجلس القيادة الرئاسي الذي جاء كمعالجة لظروف سياسية واقتصادية وعسكرية بالغة الأهمية تشهدها المحافظات المحررة بجنوب اليمن ، حيث أجمعت القوى والمكونات والنخب السياسية في مشاورات الرياض الذي رعته دول مجلس التعاون الخليجي على ضرورة معالجة مؤسسة الرئاسة وإجراء إصلاح جذري في هياكل الدولة، ووقف الحرب ووضع إطار تفاوضي خاص لها في عملية السلام الشاملة التي تقودها الأمم المتحدة.

وأضاف الزبيدي، "واليوم يقع على وجودنا في مجلس القيادة الرئاسي ضمان إكمال تنفيذ اتفاق الرياض، وإجراء إصلاح اقتصادي شامل ينتشل شعبنا من محنته الإنسانية وظروفه الاقتصادية الصعبة، وإصلاح عسكري يضمن معالجة الأخلال في وزارتي الدفاع والداخلية، والقدرة على مواجهة التهديدات العسكرية، وتنسيق الجهود العسكرية والعملياتية بين قواتنا الجنوبية المسلحة ومختلف القوات العسكرية المناوئة لميليشيات الحوثي".

ولم تمض أيام من الإعلان عن قرب انعقاد الدورة الخامسة البرلمانية، إلا وجاءت تحذيرات لي باتخاذ الحذر وعدم الإفصاح عن هويتي الصحفية وضرورة ارتداء عباءة سوداء حتى لا أبدو أنى أجنبية على البلاد، خاصة بعد استهداف زميل صحفي بالوكالة اليابانية من قبل جماعات إرهابية وضعت عبوة ناسفة في سيارته، انفجرت في حي المنصورة بمحافظة عدن وأدت إلى مقتله لينضم إلى قائمة 44 صحفيا تم استهدافهم في اليمن خلال 10 سنوات، وفقا لآخر إحصائية لاتحاد صحفيين العرب.

وفي هذه الليلة، سمعت صوت رصاص قويا في مكان ما، لكن سرعان ما يقول لي صديقي اليمني ظنا منه أنه يطمني بتلك الكلمات: "صوت الرصاص اعتدنا عليه"، وكأنه روتين يومي في المدينة.

أما صوت الانفجار الثاني الذى شهدته العاصمة عدن، كان مختلفا هذه المرة، إذ كان عملية إرهابية فشلت في استهداف مدير أمن محافظة لحج اللواء صالح السيد، أثناء مروره بمديرية خور مكسر بمحافظة عدن، ولكن راح ضحيتها مدنيين أبرياء كانوا يستقلون سيارة ميكروباص تسير في طريقها بالقرب من موكب مدير الأمن لحظة الانفجار.

وكدت أجزم أن أصوات الغربان التي أسمع صوتها بكثرة في عدن كانت تنبهنا بوجود أشخاص غريبين عن المدينة يخططون لأمر ما، العملية الإرهابية وقعت بعد الرسائل التي انبعثت من الدورة البرلمانية للجمعية الوطنية، تتوعد فيها باستمرار مكافحة الإرهاب وتطهير المحافظات المحررة جنوبي اليمن، من الخلايا النائمة التابعة لحزب الإصلاح، فرع الإخوان في اليمن، من ناحية، والتابعة لتنظيم القاعدة من ناحية أخرى، والتي تتخادم مع ميليشيات الحوثي.

فعلى الرغم من انتهاء الحرب في المحافظات الواقعة جنوب اليمن عامة وعدن خاصة منذ عام 2015، ورغم مرور سبعة سنوات على تحريرها من مليشيات الحوثي، لم يستطع المواطن اليمني أن يحيا دون أن تعصف به حرب ضروس في خضمّ أزمات متلاحقة: سياسية وأمنية واقتصادية.

ورغم مرارة ذكرى الحرب الدامية داخل كل منزل في عدن، جنوب اليمن، والوضع الاقتصادي المتأزم إلا أننى لامست حفاوة استقبال وكرم الشعب الجنوبي، وحظيت بأوقات لا تنسي وسط حرص الأهالي في عدن على لقاءات الأصدقاء يوميا، يتجمعون في المساء، وإن انقطعت الكهرباء، يفرون إلى شواطئ ساحل بحر العرب بتدرجات لون مياهه الساحرة، المعروف محليا بساحل أبين، نسبة لإحدى المحافظات الواقعة في جنوب اليمن، يجتمعون حول الشاي العدني وتتناثر الأحاديث حول انقطاع الرواتب واختراق الحوثي للهدنة، وتطلعاتهم من مجلس قيادة رئاسي، وفي الناحية الأخرى من الساحل ترى جبال "صيرة " الساحرة، و يعلو صوت أغانى عدنية تراثية "وين بتروح وأنا وأنا قلبي معك"، ويتراقص الشباب العدني على أغنية إلى بندر عدن".. والذى حاولت أن أحفظ كلماتها بلهجة عدنية كي أرددها معهم :" إلى بندر عدن باسير سيرة ولابا رد نسم إلا في صيرة متى با اتمشي في لحج الخضيرة باشوف اهلي واحبابي ولخوان انا با ارتاح ..".

هكذا هي مدينة عدن، تعيش بسحر أهله الذين وإن جار عليهم الزمان، يجدون منفذاً من البؤس بأساليبهم الخاصة، الجميع يحاول المضي في حياة طبيعية بعد ابتعاد المعارك عنهم، ولكن كل شيء يذكرهم بالحرب، فيقولون إن آثار الحرب ضد الحوثي خلال عام 2015 دمرت البنية التحتية وما زالوا يتعايشون مع تداعياتها حتى اليوم.

انتهت رحلتي القصيرة في عدن، وظننت أن مغادرتي هي النهاية، لكن تلك البلاد ساحرة. إن سكنتها سكنتك، وزرعت فيك سؤالاً يظل يراودك: متى أعود إلى بندر عدن الحبيبة؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى