من خاشقجي إلى خاشقجي مشاغل إعلامية غربية تثير الملل

> الرياض "الأيام" العرب اللندنية

> ​كشفت القضايا التي حملها الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة عن فشل تقديراته لما يمكن عمله بالاشتراك مع دولها. وهو ما ترك الصحافة الغربية -التي لا تريد أن تتحدث عن هذا الفشل- أمام موضوع واحد: جمال خاشقجي مرة أخرى، بعد الكثير من الخاشقجيات على مدى عدة سنوات سابقة.

وأثار الإلحاح على التطرق إلى هذا الموضوع الرئيس بايدن نفسه، الذي قال للصحافيين -الذين عادوا إلى طرح الموضوع في أول لقاء لهم معه لدى عودته من قمة جدة- متسائلا “هل لديكم موضوع أهم نتحدث فيه؟”.

وأعدت كل تفاصيل زيارة بايدن إلى السعودية وروجعت على مدى عدة أشهر. وكانت صور استقبال بايدن ولقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان جزءا من الإعدادات التي تم تنفيذها بعناية.

واستغنى الرئيس بايدن عن أن يكون الأمير محمد بن سلمان في استقباله لدى وصوله إلى مطار جدة. فاستقبله أمير مكة خالد الفيصل والسفيرة السعودية في واشنطن الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان. وعند مدخل قصر السلام استقبل الأمير محمد بن سلمان الرئيس الزائر بمصافحة بقبضة اليد، بدلا من المصافحة العادية، قبل أن يدخل للقاء العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز.

وأراد الرئيس بايدن من صورة المصافحة بالقبضة أن يتخلص من الانتقادات القائلة بأنه تخلى عن موقفه السابق، ولكنها سرعان ما أصبحت هي الموضوع الرئيسي. وتم تجاهل حقيقة أن برتوكولات أي زيارة يقوم بها أي زعيم أجنبي إلى السعودية لا بد أن تبدأ بلقاء ولي العهد. البروتوكولات لا تسمح بـ”الملاكمة” أيضا. فهل كانت الصحافة الغربية تنتظر شيئا مثل هذا، في لقاء رسمي؟

وما تم تجاهله أيضا هو أن القضايا التي جاء من أجلها بايدن كبيرة بما يكفي لتحدد طبيعة التموضع الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة. لكن يبدوا أن هذا الموضوع، على خطورته، لم يعد مهما أمام قصة خاشقجي التي لا يُراد لها أن تموت.

وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن الرئيس بايدن “أثار على استحياء خلال لقائه ولي العهد السعودي قضية قتل الصحافي جمال خاشقجي، كما لم يطرح مسألة حقوق الإنسان أثناء محادثاته مع الرئيس المصري”.

أما صحيفة الغارديان فقالت إن البيت الأبيض ارتكب “خطأ في التقدير” عندما “أعلن عشية بدء بايدن جولته، عن اعتزامه تجنب المصافحة باليد خلال لقائه ولي العهد السعودي. وأرجعت ذلك إلى وجود موجة جديدة من الإصابات بفايروس كورونا، لتلافي الوقوف في وضع مرتبك والتقاط صورة أمام الصحافيين مع الأمير محمد بن سلمان”.

وبدوره قال الرئيس التنفيذي لصحيفة واشنطن بوست فريد ريان “كانت المصافحة بالقبضة أسوأ من المصافحة؛ لقد كانت مخزية. لقد مثلت مستوى من الودّ والراحة وفر لمحمد بن سلمان الفداء الذي كان يبحث عنه باستماتة”. أما “بي بي سي” البريطانية فقد انشغلت بما قالته خطيبة خاشقجي عن المساءلة.

وغرق بايدن نفسه في هذا الفيض قائلا إنه أثار القضية، وجادل في الرواية التي قدمها وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير الذي قال إنه لم يسمع بأن بايدن لام الأمير محمد بن سلمان على قتل خاشقجي و”إن ولي العهد قال لبايدن إن المملكة تعمل على منع تكرار أخطاء مثل قتل خاشقجي وإن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء كذلك”.

لقد مضت نحو ثلاث سنوات ونصف السنة على هذه القضية، وما زالت الصحافة الغربية تحلب بقرتها بالمزيد من أعمال التذكير والتأليب المثير للملل، حتى أصبحت عائقا أمام الولايات المتحدة نفسها عن أن تحفظ مصالحها في المنطقة.

وقد لعب بايدن دورا رئيسيا في هذه المسألة، ولكن انطلاقا من اعتبارات تتعلق بموقف مسبق يتخذ من معاداة السعودية موضوعا لتوجيه الانتقادات والاتهامات ضدها، سواء ارتكبت خطأ أم لم ترتكب.

ويتمثل الوجه الآخر للمسألة في أن الإعلام الغربي ظل يخوض في هذا الملف ليس لأنه مثير، وليس لأنه لا توجد قضايا أخرى أهم، وإنما لأن الذين يحضون على التأليب ضد السعودية لم يتوقفوا عن فعل ذلك، ولأن موجة “العداء للسعودية” تتناسب أيضا مع مشاعر القلق التي تجتاح العديد من الدوائر الغربية، ومنها “مراكز الأبحاث” التي تمولها مصادر مخابراتية مختلفة، والتي ترى أن البرنامج الإصلاحي الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان في السعودية يصنع قوة إقليمية يمكنها أن تستغني عن الاعتماد في أمنها على الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، ويحولها إلى قوة تملك نفوذا يمكنه أن يُضعف نفوذ هذه الدول، ليس بين الدول العربية وحدها، وإنما في مجال جغرافي واسع يشمل عدة دول في أفريقيا وآسيا.

وطالما أن “الخطر السعودي” قائم فإن قضية خاشقجي لن تتوقف عن العودة إلى الواجهة كلما احتلت الأنباء عن السعودية حيّزا خبريّا في أي وسيلة إعلامية.

كما أن الخبرات الإعلامية الغربية في مجالات تشويه الصورة عميقة بدرجة تكفي لمنحها درجة الأستاذية في التأليب والتحريض وصنع الأكاذيب والمبالغات واختراع القصص المزيفة. وهي أعمال لا تعتمد بالضرورة على “المواهب” الصحافية، وإنما على روابط مع أجهزة المخابرات التي يهمها أن تصنع قصصا مزيفة لخدمة أي غرض من أغراض السياسة الخارجية لأي دولة من دولها.

وخير مثال على ذلك قصة أسلحة الدمار الشامل العراقية والتلفيقات العجيبة التي رافقتها، والتي انتهت إلى مجلس الأمن نفسه عندما رفع وزير الخارجية الأميركي كولن باول زجاجة صغيرة زعم أنها تحتوي على مادة انثراكس تكفي لإبادة مدينة كاملة.

ولم تترك القصص الصحافية الغربية حول امتلاك العراق قدرات نووية وبيولوجية كذبة واحدة إلا وأطلقتها من أجل تبرير غزو العراق. وكان الشريك الأساسي في صنع الأكاذيب وكالة المخابرات المركزية.

ولتبرير مشاركة بريطانيا في الغزو وقف توني بلير -رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت- ليقول أمام البرلمان إن برنامج العراق لأسلحة الدمار الشامل “نشيط ويجري توسيعه”، وإن “خططه العسكرية تسمح له بتجهيز بعض أسلحة الدمار الشامل خلال 45 دقيقة من صدور أمر استخدامها”.

وانتهت القصة إلى أن العراق لم يملك أيا من تلك الأسلحة. ولكن الحقيقة لم تكتشف إلا بعد أن تم الغزو.

وكانت كذبة الحاضنات التي أُلقي منها الرضع في الكويت عام 1990 واحدة من تلك الصور التي هيمنت على الاستعدادات الحربية لتحرير الكويت. كما لم يكن “الربيع العربي” وحملة أكاذيب الديمقراطية المقبلة في العالم العربي إلا جزءا من صناعة إعلام لا تكف عن توجيه الأنظار إلى ما هو مناسب من التصورات التي تخدم سياسات خارجية تصنعها أجهزة المخابرات وتبحث عن تلفيقات تصب في مجراها. وفي هذه المناسبة كان تولي جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في تونس وليبيا ومصر وسوريا هو الغاية المشتركة للإعلام والمخابرات معا.

أما خاشقجي فلن يكف عن الموت في كل مرة تبرز فيها السعودية لتبدو خطرا في أعين صناعة الإعلام والمخابرات الغربية.

وحتى بعد أن اكتشفت الإدارة الأميركية أن هذا الموضوع تحول إثر الغزو الروسي لأوكرانيا إلى مسمار في القدم يحول دون المحافظة على “الشراكة الاستراتيجية” للولايات المتحدة مع السعودية ودول المنطقة، فإن حملة التأليب لن تتوقف طالما هناك من يحض عليها. كما أن مصالح الدول لا تتوافق دائما مع مصالح مراكز التأليب. لهذه مشترون، ولتلك مشترون آخرون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى