​عوض بامدهف .. نسيانك محال !

> * هكذا هي المواهب النادرة تظهر بسرعة وتختفي بنفس السرعة، والأستاذ عوض بامدهف ظاهرة إعلامية فريدة من نوعها يصعب تقمص أدوارها أو محاصرة مواهبها الكثيرة أو سبر أغوارها في وقفة خاطفة.

* كانت قناعتي الدائمة أن الأستاذ عوض بامدهف ظاهرة مثل ليونيل ميسي يصلح لكل التموضعات الإعلامية (مقروءة .. مرئية .. ومسموعة)، ولا عجب في هذا الخليط مع أستاذ بارع في اللغة وعميق حد التعمق في الطرح والأسلوب، إن كتب برع في طرحه، وإن حاور أو جالس تعملق في فنون الإقناع،  وإن طل مذيعا أو مقدما لفقرات حفل، بز الجميع وغلب الكل وركنهم على الهامش.

* ينتمي الأستاذ عوض بامدهف لجيل لا يطلب ولا يلح ولا يستكين، عاصر الصحافة الرياضية جنوبا، منذ أن كانت مجرد نطفة في علم الغيب، ومن تجلياته الإبداعية، بنى للإعلام الرياضي صرحا ممرودا، صحبة رفاق، عاهدوا فثابروا، وأخلصوا  فأجادوا.

* في زمن كان فيه الحديث عن الستلايت والموديم والشبكة العنكبوتية مجرد مصطلحات تستنجد بها وكالات الأنباء للحديث عن الحرب الباردة أو حرب النجوم، كانت الصحافة الرياضية جنوبا تنمو في كنف عباقرة الحرف بأدوات بدائية، وكان الأستاذ عوض بامدهف واحدا من فرسان الميدان، يتنقل من محطة إلى أخرى، دون كلل أو ملل، ثم يعود من الميدان متأبطا الجمل بما حمل .. هو شاهد عيان مخضرم .. عاصر الصحافة الرياضية وقد أطلت من عليائها محاقا في سماء جنوب خرج للتو من سترة الباغي والطاغي، وفي عهده وعهد الرعيل الأول، كبر المحاق حتى أمسى بدرا ينير سماء وطن رياضي، يتلمس سبيل الرياضة الحديثة.

* ومن جيل الرعيل الأول حط الأستاذ عوض رحاله في محيط جيل الوسط، وكأنه إبن بطوطة، وبقلبه الأبيض الشاب الذي لم يشخ يوما ملأ الدنيا بروحه وبحلاوة طرحه وبمهنيته الراقية .. ومثل طائر السنونو الباحث عن ربيع الحكمة الفائضة وجد الأستاذ عوض نفسه موجها ومرشدا لجيل ثالث متسرع يركض دون وعي نحو القمة العالية.

​عوض بامدهف .. نسيانك محال !
​عوض بامدهف .. نسيانك محال !

* كان الأستاذ عوض - رحمة الله عليه - ينزعج لهذا الانحدار في المهنية، وقد قالها لي متبرما : "مثلما كان الشاعر أحمد شوقي يخشى على العربية من بيرم التونسي، أشعر الآن بأعلى درجات التبرم من هول هذا التدافع الإلكتروني، الذي لم يعد يفرق بين المهنية والمهلبية ولا بين النطيحة والمتردية.

* أكثر ما جذبني إلى مجالسة الأستاذ القدير عوض بامدهف والإستئناس بآرائه، أن له روح دعابة ساخرة، تسلب الألباب و تخطف القلوب، كان يعرف متى يمزح ويتحول إلى هازل متهكم، ومتى يستعيد كياسته ووقاره، فلا ترى أمامك إلا فارسا جادا في طرحه وفي وصاياه؟ .. عطاء الأستاذ عوض بامدهف يناهز نصف قرن إنها رحلة عطاء طويلة، شكلت وجدان شعب وإحساس جمهور تربى وترعرع ورضع من حليب مفردات جيل الأستاذ عوض.

* رحل الرفاق واحدا تلو الآخر وبقي الأستاذ عوض صامدا في عدن، يمنحها من أنفاسه العطرة قبلة الحياة، لم يتذمر حتى وهو يشاهد (الرعاع) وقد أحكموا قبضتهم على الرياضة، ظل ذلك الرجل المتفائل الجاد إلى درجة الهزل أحيانا، لا أعتقد أن هناك ما هو أجمل ولا أروع من هذه المفارقة التي تضع الأستاذ عوض في بروازه الصحيح.

* لا أحد يشبه الأستاذ عوض في براعته وفي ثعلبيته كان يعرف كيف يرفع إيقاع الحوار إلى درجة الالتهاب والغليان وكيف  يخفضه بعد ذلك إلى درجة التجمد، كان يتسلح بكل أدوات الإجادة و البراعة، متحدث فوق العادة، يعجن مفرداته بمختار الصحاح ويوزن كلماته بالقاموس المحيط، إنه فلتة من فلتات الزمن لا ولن تتكرر، شأنه شأن كل الظواهر التي تثير اهتمام الناس ثم تختفي وتتلاشى وتصبح على ألسنة العامة أسطورة من أساطير الزمن.

* رحل الأستاذ عوض بامدهف في هدوء، انسحب الفارس من الميدان دون ضجيج، ترجل أخيرا مودعا محبيه بقليل من الأمل والكثير جدا من الألم، لم يكن ليهدينا في لحظة الحشرجة سوى تلك الابتسامة الصافية التي تلخص كتاب حياته المليء بالحكايات التي لا تنسى .. رحل الفارس العدني تاركا خلفه وطنا ينزف وبلدا يدفع كل يوم فاتورة استعادة الأمجاد من دماء أبطاله، وبامدهف بطل تشهد له جبال وشواطئ و رمال عدن، كم جابه الظلم وتحداه وجها لوجه؟ .. كم مرة مارس العمليات الإستشهادية في داخله ولم يبك أو يطلب ثمنا لذلك؟ .. كم مرة اغتاله المتطحلبون على رياضتنا لكنه بقي حيا ضد كل محاولات الاستهداف؟

* أما وقد آخى جسد الأستاذ عوض ثراء عدن مخلفا خلفه دنيا دوارة، فلا يمكن قياس عمق وحجم خسارة رجل مثله دون التمعن في سيرته الإعلامية المبهرة، ومثل بامدهف نسيانه محال مُحال مُحال..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى