الشتاء الأوربي والغاز الروسي في معادلة المقاطعة الاقتصادية الغربية لروسيا

> على عكس كل الفصول الشتوية التي عاشتها أوربا خلال السنوات الماضية، تستعد القارة العجوز لاستقبال فصل شتاء هذا العام بيد مرتعشة وقلب خائف مرتجف، فلم تكن تلك العواصم تعاني مشاكل وصعوبات في مواجهة برودة الشتاء القارصة وفي انتظام دورة الحياة التجارية والاقتصادية والمعيشية فيها، مادام وأنابيب ضخ الغاز الروسي تمدها بالحياة والتدفئة بيسر وسلاسة وأسعار مناسبة، ولكن أبت القيادات والنخب الأوربية إلا أن تظل تابعة في قرارها للبيت الأبيض الأمريكي، وأن تضع شريان حياتها على المحك، وتخنق شعوبها ودولها وتعرض مصالحهم للخطر بالسير خلف الأمريكان، متجاهلة لخصوصية علاقاتها مع روسيا وحساسية المواقف التي تصدر عنها تجاه موسكو على حاجة بلدانها الملحة للغاز والنفط الروسيين، وتأثير ذلك على الاقتصاد الأوربي وعلى معيشة وحياة السكان الأوربيين بشكل عام.

فبعد مضي نحو ثمانية أشهر من تطبيق تلك العقوبات ضد روسيا بدا واضحا أن تأثيرها على أوربا أكثر منه على روسيا ،وهذا مؤشر إلى أن النتائج قد تأتي عكسية بالنسبة لأوروبا لأن ما تمتلكه روسيا من أوراق ضغط اقتصادية على العواصم الأوربية التي قاطعتها أكبر وأهم مما تمتلكه تلك العواصم ضد روسيا.

فإلى هذا التاريخ استخدم الغرب معظم ما بأيدهم من أوراق الضغط الاقتصادية على روسيا أن لم تكن جميعها ،عبر حزم من العقوبات والمقاطعة الاقتصادية التي شملت كل شيء له علاقة بروسيا ،في المقابل لم تقم موسكو إلا ببعض الإجراءات والخطوات ذات الطابع الدفاعي لمواجهة تلك العقوبات، متجنبة استخدام أهم أسلحتها الاقتصادية أو محتفظة به إلى الوقت المناسب إن صح التعبير والذي هو (سلاح الطاقة) ،ومع كون إجراءات المقاطعة الأوربية والغربية لروسيا اتسمت بالكثافة والاتساع والتزامن لتحقيق ضغط مكثف على صانع القرار الروسي بغية إرباكه وتضييق مساحة التفكير أمامه حتى يفشل في اتخاذ القرارات وإيجاد البدائل المناسبة لتجاوز آثار العقوبات، فقد اتسمت ردة فعل موسكو بالهدوء والمرونة والقدرة على المناورة والحكمة في اتخاذ القرار، فتمكنت بالتالي من تجاوز مرحلة الصدمة التي كان يسعى الغرب تعريضها كل من الاقتصاد وصناع القرار الروسيين، وهذا مثّل من وجهة نظر شخصية أول عوامل وخطوات النجاح الروسي والفشل الأوربي الغربي الذي راهن على سلاح الحرب الاقتصادية في حسم المعركة مع روسيا.

لقد بقت أروبا بعد أن استخدمت معظم أسلحتها الاقتصادية في موقف المنتظر الذي يتابع ويراقب ما ستحدثه إجراءات المقاطعة الاقتصادية على روسيا ،لكنها تفاجأت بتمكن الروس من امتصاص تأثير تلك العقوبات على الاقتصاد الروسي وفي تجاوز آثارها على الحياة المعيشية للسكان في روسيا، وهو ما عقّد الأمور كثيرا على أوربا ورفع لديها درجات الخوف والشعور بالخطر، وجعلها في حيرة من أمرها، كيف ستتصرف إن لم تؤتِ العقوبات نتائجها المتوقعة ولم يعد في جعبتها هي وحلفائها الأمريكان من وسائل وأدوات ضغط اقتصادي لتستخدمها ضد روسيا.

خصوصا وأن الاستراتيجية الغربية جعلت رهان انتصارها على الجبهة الاقتصادية لإدراكها أن هزيمة روسيا عسكريا في أوكرانيا غير ممكنة وكلما تستطيع فعله على تلك الجبهة هو مد أوكرانيا بالسلاح والمال والدعم المختلف لإطالة أمد الحرب حتى تحقق العقوبات الاقتصادية ثمارها قبل تحقيق الروس انتصارا عسكريا في أوكرانيا ،فيرغمون روسيا على إيقاف الحرب والدخول في التفاوض والتخلي عن أهداف حملتها العسكرية في أوكرانيا مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها لتحفظ كيانها من الانهيار بسبب تأثير تلك المقاطعة، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، والذي حدث أن الروس إلى جانب تمكنهم من تجاوز تأثير العقوبات أصبحوا ممسكين بزمام المبادرة على الجبهة الاقتصادية ونجحوا في تحقيق بعض الانتصارات على هذه الجبهة أهمها ما حققه الروبل الروسي من تحسن في قيمته مقابل اليورو الأوربي والدولار الأمريكي، إضافة إلى تمكن الروس من إجبار الأوربيين على دفع قيمة الغاز الروسي المباع لهم بأوروبا ، وما شهده الاقتصاد الأوربي من انكماش وركود اقتصادي بفعل المقاطعة الاقتصادية لروسيا التي أثمرت نتائج عكسية على الاقتصاد الأوربي.

ولشعور أوربا بنقطة الضعف التي تعاني منها مع روسيا لاعتمادها الكبير على الطاقة الروسية ،فقد سعت مع حلفائها الأمريكان لتأمين مصدر بديل عن الطاقة الروسية منذ أول أيام الأزمة مع روسيا، وكانت أول مساعيهم مع كل من السعودية والإمارات ثم مع فنزويلا ،فالجزائر واليمن إلى إعادة التفاوض في الملف النووي مع إيران والهدف كان النفط والغاز الايرانيين، ولكن كل تلك الجهود لم تثمر نتائج مرضية لأوروبا والأمريكان بسبب ملفات ومصالح خاصة بتلك الدول أدخلتها في حساب المقايضة مع الأمريكان والاوربيين، ومع اقتراب حلول موسم الشتاء تزداد مخاوف أوربا من أزمة حقيقة في الطاقة، وتخشى أن يقدم الروس على عقابها بقطع إمدادات الطاقة إليها بشكل كامل ردا على إجراءات المقاطعة التي طبقتها أوربا تجاه روسيا فيدخلها في حالة من الارتباك والمشكلات والاضطرابات الخطيرة جدا.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخصوص، هل يمكن أن يتخذ الروس قرارا بإيقاف ضخ وقود الطاقة إلى أوربا بشكل كلي ؟

الإجابة على هذا السؤال تكون بطرح سؤال آخر أكثر موضوعية وواقعية وهو: لِم لا تستخدم روسيا سلاح الطاقة ضد أوربا والاوربيين قد أعلنوا الحرب الاقتصادية ضدها؟ ، فسلاح فعال كهذا تمتلكه روسيا ضد أعدائها الذين يسعون إلى تدميرها اقتصاديا إن لم تستخدمه في الوقت المناسب فما قيمة هذا السلاح وما الفائدة منه، وهل من الحكمة أن تظل روسيا تزود أوربا بالطاقة وتمنحها الوقت والفرصة حتى تتمكن من تأمين مصدر بديل عن الطاقة الروسية فيفقد سلاح الطاقة فعاليته وتأثيره على أوربا ويفرط الروس بأهم أسلحة الردع الاستراتيجية الاقتصادية التي يمكنهم عبرها أن يجبرون أوربا على تعديل موقفها ضد روسيا، وأعتقد أن الروس يفكرون جدّيا في معاقبة بعض العواصم الأوربية المؤثرة المشاركة في المقاطعة الاقتصادية وأن أفضل وقت لاتخاذ قرار إيقاف ضخ الغاز إلى أوربا هو موسم الشتاء وأوروبا بأمس الحاجة للغاز في التدفئة وفي استخدامات اخرى كثيرة ومتعددة، وأتوقع أن تكون عواصم أوربية مهمة مثل( لندن ،برلين ،باريس ،وارسو ) أول العواصم التي ستعاقبها روسيا بإيقاف إمدادات الغاز إليها بشكل كلي وستتبعها عواصم أخرى، وفي تصوري أن هذه العواصم أيضا ستكون أول أهداف موسكو العسكرية إذا تطور النزاع القائم إلى حرب مباشرة مع الناتو.

وإذا ما اتخذ الروس قرار معاقبة أوربا بالغاز فما الذي يمكن أن يحدث ؟

ليس ثمة شك أن انعدام الطاقة أو شحتها وارتفاع أسعارها سيعرض أوربا إلى تسونامي بشري قد يعصف بكيان دولها إن لم تتدارك وتصحح قرارها الكارثي في مقاطعة روسيا اقتصاديا، ستغرق أوربا في مشكلات لا حصر لها تصيب الحياة العامة فيها بحالة من الشلل التام، الضرر سيصيب كل مناحي الحياة فيها، ستجد أن الكثير من المصانع قد توقفت عن إنتاجها الصناعي، وأن الكثير من المرافق الخدمية قد توقفت عن تقديم خدماتها للسكان مثل المطاعم والفنادق والمتنزهات والملاهي السياحية لعجزها عن توفير وقود التشغيل ووقود التدفئة التي يحتاجها الزوار والسياح والرواد لتلك المرافق ، سترتفع كلفة الحياة والمعيشة بشكل سريع ومفاجئ نظرا لارتفاع اسعار الوقود وانعدامه في أكثر الحالات، سيجد المواطن الأوربي أن حياته صارت مهددة، حتى في توفير غاز الطبخ وفي رغيف الخبز وهو المعتاد على حياة الرفاه الاقتصادي طيلة سنوات حياته التي مضت، وفجأة يجد نفسه غير قادر أن يحصل على أدنى متطلبات الحياة، عندها سيخرج السكان في المدن والعواصم الأوربية ضد حكوماتهم وستشهد أوربا طوفان بشري يعصف بحكومات دولها إذا لم تعد النظر في قرارها الكارثي بمقاطعة روسيا والسير خلف الأمريكان في محاربة روسيا، فمن المستحيل أن يضحي الإنسان الأوربي بحياته من أجل أوكرانيا أو من أجل أن تظل أمريكا متربعة عرش قيادة العالم، سيحدث هذا حتما إذا أوقفت روسيا ضخ الغاز والنفط إلى أوربا، وقد بدأت آثار تأثير العقوبات تظهر على حياة السكان في أوربا ومازال ضخ الغاز الروسي مستمر إليها فكيف سيكون الأمر إن تم إيقافه بشكل كامل، كما بدا العديد من السكان الأوربيين يضيقون من التواجد الكثيف للمهاجرين الأوكرانيين .

أن اضطراب الأوضاع داخل الكثير من بلدان الاتحاد الأوربي أمرا متوقعا بل مؤكدا إذا ما حدث أي إرباك في سوق وإمدادات الطاقة في أوربا، وحدوث هذه الاضطرابات سيكون عنيفا جدا تبعا لعمق الضرر الذي سيمس حياة السكان، الأمر الذي سيرغم حكومات الدول الأوربية أن تعيد النظر في مواقفها ومراجعة حساباتها تحت ضغط المشاكل الاقتصادية التي تعصف ببلدانها وضغط التحرك الشعبي الذي لن يوقفه غير عودة الحياة إلى وضعها الطبيعي المستقر، وهذا لن يحدث إلا عبر البوابة الروسية، وستجد العواصم الاوربية أنه لا سبيل لحل مشكلاتها التي عصفت بها الا بالحوار والتفاوض مع موسكو والاعتراف بمصالحها في أوكرانيا وفي حماية أمنها القومي وتفهم مخاوفها الامنية، واحترام سيادتها ومكانتها كقوة دولية كبرى على أوربا والقبول بها كحتم جغرافي وقدر مقدور عليها ليس من الحكمة تجاوزها أو استفزازها في سياسات وأعمال وتحالفات تهدد أمنها وتضر بمصالحها ضمن محيطها الجغرافي والإقليمي المجاور.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى