قطر تثبت أن الأرض تدور

> علي الصراف

> ​الانتقادات والملاحقات الإعلامية التي تتعرض لها قطر لاستضافتها مونديال 2022 لكرة القدم ظالمة وتنطوي على دوافع عنصرية وتتغطى بدفاع مزيف عن حقوق الإنسان. ولكن أليس هذا هو نفسه ما كانت تفعله قطر؟

في النهاية، “الدنيا دوّارة”! وما حاولت قطر أن تسقي به غيرها، ها هي تشرب منه الآن.

كسبت قطر حق استضافة المونديال وسط اتهامات لم تنقطع، بأنها “اشترت” الاستضافة بالمال. وثمة مَنْ واجهوا المحاكم على الأقل لتفسير كيف دخلت عشرات الملايين من الدولارات إلى حساباتهم.

وبرغم كل ما يتوفر من “خبرات عميقة” في التغطية على أحابيل المال الملتوية، فإن تلك الخبرات تجاهلت حقيقة أن عالم الفساد الغربي يعرف طرقها جميعا، كما يعرف كيف يفك شفراتها.

من حق أي بلد أن يوسع طموحاته، سواء أكان يملك المال أم لا يملكه. وبالتالي، لم يكن كثيرا على قطر أن تطمح إلى أن تحظى بامتياز كبير كاستضافة مونديال عالمي تتابعه وتهتم به نصف البشرية جمعاء.

ولكن، لكي لا تمضي الأمور في المسالك الخاطئة، فقد يجب أن تتوفر لقطر ميزات، عدا كثرة المال، تبرر تلك الاستضافة.

كان الأمر يتطلب بضع سنوات من العمل في اتجاهات مختلفة، تكفل لقطر أن تصبح قطبا جذّابا للأنشطة الرياضية العالمية. وشيئا فشيئا، ينمو الاستحقاق، حتى لتغدو استضافة مونديال كرة القدم أمرا طبيعيا، لا يثير الجدل، ولا يتطلب شراء المونديال.

القفز بالمال لتحقيق الطموحات ليس سوى خدعة وفخ.

الخدعة تقول للمخدوع بنفسه إن المال يكفي لشراء كل شيء. وهذا تصور ساذج، بصراحة. المال أرخص من أن يشتري دورا أو مكانة راسخة، فلا تطيح بها ريح الملاحقات.

والفخ، هو أن ما تنفقه لبناء مجد زائف يضيع ويضيع معه المجد. وهذا ما هو حاصل الآن. إذ أرادت قطر أن تبني مجدا رياضيا، فلاحقتها الانتقادات والاتهامات، حتى لتخرج منها مثخنة بالجراح. وحتى لتتمنى لو أنها ما غامرت كل تلك المغامرة من الأساس.

قفزنا بالمال لنشتري استضافة المونديال، ثم قفزنا لنحو ثمانية أعوام، لنستجلب نحو خمسة ملايين عامل لكي يبنوا ما لم يكن له، من أصله، أساس. ومات نحو 6500 منهم في ظروف عمل شاقة، أو مختلة المعايير، أو انطوت على حرمانات حقوق، أو انتهاكات. وها نحن الآن أمام مَنْ سعى لنبش كل القبور من أجل ملاحقة قطر بمَنْ أصبحوا “ضحايا”، أو لأجل تحويلهم إلى أشباح إساءة للبلد الذي قصد أن يجني مجدا سريعا على أكتافٍ ليست أكتافه.

كل الذين كسبوا المال في الصفقة، صمتوا عن الانتقادات بطبيعة الحال، ولكنهم فتحوا كل الأفواه الأخرى التي تمارس التجريح، لأنها لم تحظ بما حظي به الآخرون.

القاعدة في الغرب، هي أنك إذا أعطيت أحدا ما لا يصح، فيجب أن تعطي غيره. وإذا وعدت أحدا بشيء فيجب أن تنفذ وعدك، أو أن يُصبح عدوا، فيأخذ بالعداوة ما كان يقصده بالابتزاز، وهكذا، إلى ما لا نهاية.

قطر ترمي الكثير من الأموال في بالوعة بريطانيا العظمى. ومع ذلك، فإن “البي.بي.سي” تشارك فعليا في حملة نبش للقبور، وتخوض في تحقيقات، وصلت إلى أبعد أركان الأرض، لتروي قصص معاناة ذوي الضحايا الذين ماتوا في ظروف عمل قاسية. أو كيف باعوا أبقارهم لكي يدفعوا ثمن الرحلة لابن ذهب ليعمل في قطر وعاد في تابوت ممزق الأوصال.

حقوق “المثليين” قصة أخرى. فهؤلاء وإن كان وجودهم عابرا ولا يثير الانتباه في أي ملعب في أوروبا. إلا أنهم باتوا قضية يتعين على قطر أن تمتثل لموجباتها “الإنسانية”. ولأنها بلد محافظ، فإن الاستفزازات فيها تصبح مثيرة للإغراء، بل أكثر أهمية من مباريات المونديال نفسها.

وما من تفصيل آخر، من تناول الكحول إلى الحق في ارتداء الملابس (المقصود نزعها) إلا وتحوّل إلى قضية تستوجب السكاكين لتجريح هذا البلد المسكين، الذي طلبَ مجدا، فوجد حفرة.

في النهاية، فإن قطر تواجه ظلما يزداد بشاعة كل يوم، مدفوعا بأغراض مريضة ومنافقة. ولكنها هي نفسها مارست جنس المظالم نفسها على دول المنطقة الأخرى، بل وكان “الأقربون” منهم أولى باللامعروف في حملاتها الإعلامية الشرسة ضدهم.

قطر، بدعمها لمشروع الإخوان المسلمين في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن ودول الخليج الأخرى، تركت إرثا من الجرائم التي ما تزال الدماء تسيل من حولها حتى الآن. عدا الخراب. وعدا الانهيارات الاقتصادية. وعدا تشويه مرامي الحرية التي سعى لها الراغبون بالخلاص من الاستبداد. فحولتها قطر إلى مرامٍ تتوافقُ مع مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تبناه “المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة ورعته وكالة “السي.آي.أي”، لكي يجري تفكيك دول المنطقة وتتم “إعادتها إلى عناصرها الأولية” كقبائل وطوائف و”مكونات” متنازعة.

ولقد تم إنفاق المئات من المليارات على هذا المشروع، لتكون رأس حربة لأعمال التخريب والانقسامات.

ومثلما يتخذ المتحاملون على قطر من “حقوق الإنسان” سكاكين لتجريحها الآن، فقد كانت هي نفسها من ظل يحمل هذه السكاكين. حتى دارت عليها الأيام!

ومَنْ لم يصدق أن الأرض تدور، فقد أثبتت له قطر ذلك بالدليل القاطع. حفرت البئر لتسقي الجوار من مائه المُرّ، فوقعت فيه.

المال لا يصنع نجاحا. النجاح هو ما يصنع المال. والمعنى من ذلك هو أن تبني ما يُضفي على المال معنى، غير كونه مجرد مال. والمعنى هو أن تصنع دورا لا يُشترى بالمال، بل بالعمل الخلاق والمثمر والمعطاء.

بعض كبار الأثرياء ينبذون ما جمعوه من المليارات، لأنها بحد ذاتها، لا تعني شيئا. وارن بافت وبيل غيتس وجيف بيزوس يحاولون أن يجعلوا من الأعمال الخيرية سبيلا لإضفاء معنى على ما لا معنى له.

الدول ليست جمعيات خيرية بطبيعة الحال. ولكن فائض المال فيها، على غرار هؤلاء، يحتاج إلى منافذ تصريف تُضفي على المال معنى آخر. فيصنع بمرور الوقت، ما قد يبرر أوسع الطموحات والأحلام.

قطر تستحق أن تستضيف المونديال وأكثر منه. ولكن ليس بزيف ما يصنعه المال. وإنما بما تصنعه السواعد وترفعه الأكتاف.

يوم تكون قطر قطبا عالميا مشهودا من أقطاب الرياضة، يصبح المونديال استحقاقا طبيعيا.

ويوم تكون قطر محور مشروع بناء وإعمار وتنمية إقليمية، فإنها تصنع لنفسها مكانة لا تثير الجدل.

ويوم تستخدم أدواتها الإعلامية في مشروع للاستقرار والإصلاح، من دون تنسيق مع مشاريع التخريب، فلن يكون مُنصفا من أي أحد أن يُلاحقها ويرفع ضدها سكاكين التجريح.

لقد أثبتت قطر أن الأرض تدور. وأثبتت أن المال كلام فارغ، لا يصنع دورا ولا يمنح مكانة.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى