ومن شر حاسد إذا حسد.. كيف يحرس الخليج تريليون دولار؟

> د. هيثم الزبيدي

> ​يشير أحد التقديرات العالمية للزيادة في عائدات النفط والغاز لدى الدول الخليجية إلى رقم تريليون دولار. لم يشهد تاريخ هذه الدول زمانا وصلت فيه العائدات إلى هذا المستوى ولمدة طويلة. تضافرت عوامل كثيرة لتحقيق هذه العائدات، الأساسية المعتادة منها والإضافية الجديدة بحكم الوضع الدولي للإنتاج ودخول عوامل سياسية كبرى أثّرت بدورها على الأسعار. حرب أوكرانيا وفّرت فرصة ليس لتصاعد أسعار النفط والغاز فقط، بل لمنع تذبذبها بمستويات كبيرة. الدول المنتجة استبقت الظرف الحالي بخطوتين مهمتين. الأولى، الاستثمار الكبير في آليات الإنتاج وتوسيعه. والثانية، التنسيق المهم والاستثنائي بين الدول المنتجة والذي تجاوز تعثرات أوبك، وأنتج أوبك+.

من السهل القول إن أعين الغرب مهتمة بهذه العائدات التاريخية. لكن الغرب يعرف كيف يأخذ حصته من هذه العائدات، سواء تجاريا أو عن طريق صفقات الأسلحة والتكنولوجيا التي يسيطر عليها. وثمة جزء كبير من العائدات ينتهي عادة كاستثمارات في الشركات الغربية الكبرى أو كسندات خزينة في الدول الغربية. ما ليس سهلا الحديث عنه هو أعين دول الإقليم الأخرى التي تجد أن استقرارها السياسي والاجتماعي على المحك، بعد أن صارت تواجه مشاكل متضخمة بحكم ارتفاع فواتير الوقود والغذاء.

لننظر إلى الحكاية التالية. لا نعرف بالضبط كم ستكون حصة قطر من التريليون دولار الإضافية التي ستدخل الخليج بحكم ارتفاع الأسعار. لكن في مؤشر بسيط، تقول صحيفة فاينانشيال تايمز إن دخل شركة قطر للطاقة في النصف الأول من عام 2022 هو 32 مليار دولار، وهو ما يمكن أن نستقرئ منه دخْلا يصل إلى 70 مليار دولار لهذا العام. قطر أنفقت 200 مليار دولار على الاستعدادات لاستضافة المونديال، منها 6.5 مليار دولار على الملاعب فقط. أرقام فلكية لا تتناسب مع الأبعاد الجغرافية للبلد، لكنها مناسبة جدا لطموحاته السياسية. لعل إنفاق 200 مليار دولار على استعدادات المونديال يجعل هذه الحملة أكبر حملة علاقات عامة في التاريخ. قطر على الخريطة، مرئية سياسيّا وماليّا. ستمر عاصفة الاحتجاجات واللوم على انتهاكات حقوق العمال والمرأة والمثليين. وبدخل سنوي من النفط والغاز يعادل 70 مليار دولار، تستطيع ملاعب المونديال الغالية والمبهرة أن تتقاعد مبكرا بعد استخدامها مرةً واحدة.

هذا جزء من الحكاية. الجزء الآخر هو ردة فعل قطر أمام أزمة مصر الاقتصادية المركبة التي تزامنت مع بدْء فعاليات المونديال. مصر تعاني من أزمة سيولة وأسعار صرف وارتفاع في فواتير الطاقة والغذاء. ولأن قطر الجديدة تتعامل مع مصر بشكل ودّي، ولم تعد هي قطر التي تكيد للنظام المصري من خلال مشروعها الإخواني العالمي، بادرت بوضع مليار دولار وديعةً في البنك المركزي المصري. بالتأكيد ليس من مسؤولية الدوحة حل مشاكل مصر الاقتصادية المركبة، ولكنها لاعتبارات ليست واضحة تماما بادرت إلى دعم السيولة في مصر بمليار دولار.

كيف يرى المصري العادي المسألة؟ هذا بلد ينفق 200 مليار دولار على المونديال، ثم يعطي المصريين مليار دولار وديعة وليس هبة. شيء أشبه بأخوين أحدهما ينفق 200 جنيه على موقف ترفيهي بحضور أخيه المفلس، ويبادر ويعطي أخاه جنيها واحدا، لا لينفقه، بل ليحس بأن في جيبه مالًا.

التشبيه في العلاقة بين أخوين ليس اعتباطيا. هذا ما تقوله قطر عن مصر “الشقيقة”. ولهذا أنفقت الدوحة مليارات الدولارات على مشروعها السياسي في المنطقة، وكانت مصر في قلب المشروع/الانقلاب القطري الإخواني الذي تعثر لأسباب كثيرة.

دول خليجية أخرى بادرت ودعمت النظام المصري على مدى السنوات العشر الماضية؛ أحيانا في شكل هبات غير مستردة، وأحيانا أخرى في شكل ودائع، وأحيانا ثالثة -وهي الأكثر رواجا اليوم- في شكل استثمارات. لا شك أن النموذج الاقتصادي التنموي في مصر مليء بالثغرات ويحتاج إلى إعادة نظر شاملة. لكن ما على المحك الآن أكبر من عملية تصحيح طريقة إنفاق هذه الهبات أو استخدام الودائع لدعم العملة أو نوعية الاستثمارات. آخر ما تريده دول المنطقة أن يدخل المريض المصري إلى غرفة الإنعاش.

سنضع حدا جغرافيا لدائرة الحسّاد ينتهي عند حدود مصر الغربية. لننظر إلى دول الإقليم المحيطة بالخليج. ها هو الأردن يئن من الوضع الاقتصادي المتراجع. ويمكن توصيف المشهد في لبنان بأنه صورة لتفسخ جسد ملقى منذ فترة بين الحياة والموت. أهل الخليج أدْرى بحال اليمن من غيرهم. وليس مهمًّا الآن الموقف السياسي من النظام السوري، إلا أن الوضع الاقتصادي هناك كارثي، وتحول البلد من قنبلة متفجرة -تناثرت شظاياها على كل المنطقة محدثةً حالة من عدم الاستقرار- إلى ثقب أسود يخسف بسوريا من الداخل وتجاهد الدول المحيطة كي لا يبتلعها هي أيضا. الوضع الاقتصادي في الضفة وغزة أكبر ماكنة تحريض ضد الخليج الذي “نسي إخوته وقضيتهم”. لا نعرف بالضبط إلى ماذا سيؤول الوضع في السودان، لكن المؤشرات غير مبشرة.

بل دعونا نتذكّرْ الخليجيين أنفسهم. المواطن الخليجي كان يحس بأنه صاحب إمكانية مالية أكبر قبل 20 عاما، رغم أن البترول كان بسعر 40 دولارا. اليوم ثمة تقشف في الإنفاق الحكومي وتقليص للرواتب والمخصصات والمنح. هناك حملات توطين للوظائف واستبعاد فعلي للعمالة الوافدة بحجة تسرب المال إلى الخارج في شكل تحويلات. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن هؤلاء الوافدين كانوا يسكنون في دور وشقق يملكها الخليجي ويؤجرها لهم، ويأكلون في مطاعم ويتسوقون في مولات يمتلكها أهل البلد. بتراجع أعدادهم، صار على الكثير من المواطنين الخليجيين تسديد فروقات القروض التي أخذوها من البنوك لبناء العمارات التي يسكنها الوافدون. المواطن الخليجي يسأل نفسه عن أسباب الإمعان في سياسات التقشف والتوطين، في حين أن عائدات مبيعات النفط والغاز تشهد ذروة لم تتحقق من قبل. تويتر، المنصة المفضلة في الخليج، تحفل بتغريدات تزيد فيها مع الوقت جرعة التذمر من بعض الإجراءات الحكومية، وخصوصا تلك التي تمس الرواتب والوظائف.

لا شك أن القيادات الخليجية محقة -على العديد من المستويات- في انتهاج سياسات توطين الوظائف وتقليص الإسراف في الإنفاق. فهذه الدول لا تستبعد أن تشتعل حرب في المنطقة تكون إيران طرفها الآخر، بشكل مباشر كما تهدد طهران دائما، أو بالوكالة كما يحدث يوميا تقريبا بهجمات المسيرات التي تتحكم فيها الميليشيات. المال المتراكم من العائدات “قرش أبيض ليوم أسود”. لكن المواطن الخليجي يرى أيضا أن بعض وجوه الإسراف مستمرة على مشاريع لا تختلف كثيرا عن مونديال قطر.

تريليون دولار إضافية تحتاج إلى حراسة وتحصين من جوانب متعددة. أحد هذه الجوانب هو التذكير المستمر للذات بأن الخليج لا يعيش في إقليم معزول أو محصن. هنا ليس المقصود العدوان الخارجي الذي تهدد به إيران، وإنما الأوضاع الاجتماعية والسياسية الضاغطة التي تتعرض لها دول الإقليم المحيطة بالخليج. التخلخل بين جار ثري وآخر فقير يمكن أن ينتج أزمات هما في غنى عنها.

جانب آخر من الحراسة يكمن في إعادة النظر في الإعلام وكيفية تقديم دور دول الخليج إلى الإقليم. في الكثير من الأحيان نجد أن الإعلام الخليجي نفسه -وخصوصا الفضائيات والصحف- يتعامل مع دول الخليج وكأنها منتج سياحي يقدم للآخرين. المصري عندما يسمع أن سلطنة عمان تشتري ديونها وأن الكويت تواجه عجزا في الميزانية، يعيد النظر في موقفه ويعرف أن هاتين الدولتين لا تعيشان في بحبوحة مطلقة.

ثم هناك التحصين الداخلي من خلال عدم مبالغة دول الخليج في انتهاج سياسات التقشف وتقليص الإنفاق والضغط على كتلة الرواتب وإلغاء المخصصات. من حق كل الدول إعادة النظر في إنفاقها الحكومي، لكن العالم كله متوتر ومتخوف من المستقبل، حتى ذلك المواطن الذي يعيش في بيت فاره ويقود سيارة حديثة من طراز رفيع.

“ومن شر حاسد إذا حسد”. التحصن من الشر سلسلة طويلة من السياسات والتوازنات والرؤية الموضوعية لواقع المنطقة والعالم، ولكيفيّة نظرِ أهل الدار إلى أنفسهم.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى