عن الثقافة كآخر أوراق الهوية اليمنية

> صالح البيضاني

>

لم يعد لليمنيين الكثير ليتباهوا به في ظل حرب مدمرة أكلت الأخضر واليابس وأتت على النفوس والقيم التي عادة ما تكون أول ما تقتات عليه الحرب، غير أن التراث الفني الزاخر والموروث الثقافي الهائل، ربما يكون آخر ملامح الاعتداد اليمني المجروح بذات أنهكتها الصراعات المنفلتة التي تكاد تكون سمة يمنية ثابتة منذ قرون.

وقد مثل رحيل الشاعر والمفكر اليمني الكبير د. عبدالعزيز المقالح في هذا التوقيت عبئا نفسيا إضافيا على مشهد مشحون وشريحة واسعة من اليمنيين كانوا ينظرون إليه كعلامة فارقة في مسيرة أدبية وثقافية متهادية في بلاد مزقتها مدي المتحاربين.

واللافت في الحالة اليمنية أن الثقافة تظل حتى في أحلك أوقات الصراع عاملا حاضرا في ذهنية المتحاربين والساسة الذين عادة ما يعملون على توظيف هذا العامل المرجح الذي أثبت فاعلية كبيرة في بلد ما يزال يستمع للشعراء وتؤثر به “الزوامل” والموشحات الشعبية كأنه على عتبات حرب جاهلية يتقدم مسيرتها مفوه فصيح يجيد تأجيج المشاعر.

وفي زمن الحرب عاد الكثير من اليمنيين لاستدعاء الثقافة ورموزها وأعلامها، ربما هربا من بشاعة السياسة ونفاق السياسيين وربما محاولة للذود بآخر حصون الذاكرة اليمنية المنيعة التي استعصت حتى الآن على محاولات الطمر وإهالة تراب الحرب، رغم مضي الحوثي قدما في مساعي تغيير الهوية الثقافية التي يبدو أنها تحتاج لعقود وربما قرون في بلد يشبه الإمساك بزمامه امتطاء السباع، كما قيل في الأثر السياسي.

وفي الاقتراب من الحالة الثقافية اليمنية، خلال العقود الخمسة الأخيرة، نقف أمام نخلتين مثمرتين في واحة الأدب والتأثير الثقافي، مثلتا جزءا أصيلا وهاما من هوية المشهد الثقافي اليمني، الأولى تتجلى في شاعر اليمن ورائيها الشاعر عبدالله البردوني الذي تحول خلال السنوات الماضية إلى أيقونة بارزة تتنازعها كل القوى والأطراف المتحاربة وتسعى لتفسير نصوصها وتأويل مراميها، أما الحالة الثانية فقد عبر عنها شاعر اليمن عبدالعزيز المقالح الذي كانت لديه فلسفة مختلفة في التعامل مع الأحداث والمجريات السياسية باعتبارها جزءا غير مقدس ولا يستدعي أن يصبح الأديب ثائرا إن لم يكن قادرا على إحداث تأثير يتعدى التضحية بروحه المنهكة على محراب حرب أزلية.

وبين ثورية البردوني وتمرده ونزوعه للمعارضة والرفض وجنوح المقالح بعيدا عن دائرة الصدام، وخصوصا في السنوات الأخيرة من عمره التي قضاها يكابد المرض وتقدم العمر ومحاولات التوظيف السياسي، يظل اليمنيون أو جلهم يكابدون للحفاظ على نقاء سريرتهم الثقافية وإرثهم في منأى عن تشوهات الحرب وتقاطعات السياسة وتكلفتها التي تأتي كل يوم على ما تبقى من ملامح جمال ذابل في وجه بلد أنهكته النزاعات.

وفي مثل هذا الوضع يمثل رحيل قامة أدبية يمنية كبيرة لا تلوح في الأفق ملامح لخلافتها، مثل المقالح خسارة فادحة وفجوة يصعب تعويضها، مع وجود أطراف متحفزة في مقدمتها الحوثيون، تسعى لملء أي فراغ يخدم مشروعها الذي يحاول التمدد عميقا نحو جذور الثقافة اليمنية ولا يتعامل فقط مع الحرب والسياسة ومقتضياتها فهو مشروع يفوق في خطورته الحرب ذاتها ويهدد ما تبقى من وطن لليمنيين.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى