أزمة الوعود والعهود السياسية تأبى مبارحة السودان

> محمد أبوالفضل:

> ​لم يكن أشد السودانيين تفاؤلا ينتظر التوقيع على اتفاق التسوية السياسية النهائي بين المكونين العسكري والمدني في موعده المحدد السبت، وإن تم فعلا سيواجه الاتفاق بعقبات عديدة تمنع تطبيقه كاملا في ظل عدم حسم الكثير من القضايا الشائكة وربما تم تركها معلقة عمدا، في مقدمتها آليات دمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش وصولا إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية عموما.

تعززت مخاوف من يعرفون دهاليز السياسة في السودان بالإعلان عن تأجيل أول موعد في المصفوفة الزمنية الجديدة المتفق عليها السبت، وهز الثقة في التوقيتات التي حوتها التفاهمات العاجلة بين القوى السودانية مؤخرا، ما يعني زيادة فرص ترحيل التوقيع على مسودة الدستور الانتقالي في السادس من أبريل الجاري وإعادة هيكلة السلطة التنفيذية وتشكيل الحكومة الجديدة في الحادي عشر من الشهر نفسه.

مهما كانت النتيجة التي تمخض عنها اجتماع القوى المدنية والعسكرية في القصر الجمهوري بالخرطوم السبت لتحديد موعد جديد، لن يتمكن المجتمع الدولي القريب من العملية السياسية من ضمان تنفيذه ما لم تتوافر ضغوط قوية على المتسببين في تأخير التوقيع، فخبرة السودانيين في الالتزام بالمواعيد سلبية والتاريخ المعاصر يؤكد صعوبة إنزالها على الأرض، وتواجه عثرات جمة عندما يحين موعد تطبيقها.

وكشفت الأزمة التي يعيشها السودان منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير عن الكثير من الأمراض التي تعصف بالبلاد منذ زمن طويل، أبرزها عدم القدرة على تنفيذ الوعود، فقد امتدت الفترة الانتقالية المقدرة بعامين إلى أربعة ولا يزال الأفق مسدودا حول إمكانية أن تقف عند هذا الحد أو الالتزام بموعد جديد تتوافق عليه القوى الوطنية لطي هذه الصفحة والمقدرة بعامين بعد التوقيع على الاتفاق النهائي.

يبدو الطريق محفوفا بكثير من العراقيل والعقبات والمخاطر، لأن الهوة بين غالبية القوى واسعة، وقد يختزل البعض الأزمة في المسافة البعيدة بين الجيش وقوات الدعم السريع باعتبارها العقبة الأصعب التي تمثل مبررا سهلا لكثيرين بحكم الخلافات المتباينة التي نشبت علنا وسرا بين قائدي الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ويدلل هؤلاء على صواب رؤيتهم بما حدث من تراشقات بينهما، خاصة بعد أن بدا حميدتي قريبا من القوى السياسية وموثوقا به أكثر من جانب قوى دولية، حيث يظهر دعما غير محدود لتشكيل حكومة مدنية، وحرصا على التمسك بالاتفاق الإطاري وتحويله إلى نهائي بكل ما ينطوي عليه من ركائر سياسية.

الحقيقة، الأزمة بين البرهان وحميدتي هي الجزء الظاهر على السطح من كل ما يعتمل في البلاد، وتعبر عن أحد الوجوه، فما خفي كان أعظم، وإذا عرفنا أنه مضى نحو عام ونصف العام على الانقلاب العسكري وعزل حكومة عبدالله حمدوك الثانية في أكتوبر 2021 ولم يتم تعيين حكومة مدنية بديلة فمن الصعوبة التفاؤل بنتائج تحويل الاتفاق الإطاري الذي مضى عليه نحو أربعة شهر إلى نهائي.

لقد تم ضرب مواعيد وأعلن عن تعهدات بين الأجنحة المتصارعة على مدار السنوات الأربع وغالبيتها لم تر النور ودخلت على الخط قوى إقليمية ودولية ولم تفلح في وقف تداعيات الأزمة، فالقوى المنخرطة فيها لديها حسابات تحول دون التوصل إلى صيغة قابلة للتطبيق بلا منغصات سياسية أو عسكرية وكأنها مرتاحة للصورة الراهنة.

كما أن حيلة تقسيم الاتفاقيات وتوزيعها على مراحل مصبوغة برائحة التعقيدات التي يمر بها السودان، فالمسودات والاتفاقيات الإطارية ثم النهائية حيل تثبت أن القوى المشاركة فيها لا تملك إرادة سياسية كافية للدخول مباشرة في تنفيذ العهود، ففي كل المحطات يتم جدولة الاتفاقيات بغرض تهيئة الأجواء لتنفيذها، بينما في حالة السودان هي وسيلة للحصول على فرص للتنصل منها والانقضاض عليها لاحقا.

راهنت بعض القوى على عقلانية المكونين العسكري والمدني في السودان بعد أن شعرت بأن الأزمة على وشك الإنفلات بما يجعل من السيطرة عليها عملية صعبة، غير أن الخطوات التالية تثبت في كل مرة أن إرضاء جميع الأطراف عملية مستحيلة.

فإذا تفاهم الجيش مع قوات الدعم السريع وتم عبور الخلاف حول سنوات الدمج والترقيات وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية قاطبة سوف تظهر المخاوف من الهوة بين الكتلة الديمقراطية والمجلس المركزي بقوى الحرية والتغيير.

وإذا تم تجاوز ذلك سيعود ملف الفلول والإخوان ونفوذهما عقب استمرار التغلغل في مؤسسات السودان ليطفو على السطح، وتتحول المعركة من خلاف بين العناصر المسلحة إلى آخر بين القوى المدنية والعسكرية، أو إلى فلول وقوى الثورة والمقاومة، وصولا إلى المعركة التقليدية بين الإسلاميين والعلمانيين.

لن تتوقف الأزمات لأنها أصبحت عرضا مستمرا في السودان، ولا تستطيع القوى الحية والميتة فيه مواصلة الطريق من دون مشاجرات ومزايدات، فقد أتيحت الفرصة للبدء في مشروع جديد تلتف حوله القوى المدنية والعسكرية، لكنه تبخر في خضم معارك كبيرة وصغيرة خاضتها قوى عديدة على أمل أن تستأثر إحداها بحكم البلاد.

عصفت أزمة التوقيتات بطموحات راودت شريحة من السودانيين بعد الثورة على البشير، وتيقن هؤلاء أنها لا تفرق بين مدنيين وعسكريين، وكل فريق يتعمد تلغيم الاتفاقيات من داخلها أو خارجها بوضع نصوص رمادية ومشاركة أطراف مصطنعة واللجوء إلى وساطات مشكوك في حرصها على تجسير الهوة بين القوى المتصارعة.

أصبحت آفة التقيد بالوعود من المشاكل الرئيسية التي تواجه السودان، ولا توجد صيغة محددة يمكنها توفير الضمانات الكافية لتحاشيها سوى قيام الآلية الثلاثية المشكلة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و”إيغاد” بتبني رؤية تحوي فرض عقوبات على الجهة أو الجهات التي تعرقل التوقيع على المصفوفة الزمنية بعد إعادة ترتيب مواعيدها.

وتقوم اللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات بممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على القوى المعرقلة وتقديم حوافز وإغراءات لنظيرتها التي تتفاعل مع قواعد التسوية، حيث أدمنت الأطراف السودانية التعامل مع سياسة الأداتين، وثبت أنها قادرة على تحقيق تقدم ملموس، لأن ترك الأمور وفقا لتوازنات القوى الداخلية وتغيراتها المستمرة ومعادلات القوة والضعف، والنفوذ والانتشار، وتاريخ وحداثة الأحزاب، يمكن أن تتسبب في مزيد من الأزمات.

ما لم تكن سياسة العصا والجزرة، والخشونة والليونة، والتوفيق بين المدني والعسكري، قادرة على تحقيق اختراق سيكون من الصعوبة خروج السودان من أزمته هادئا وآمنا ومستقرا وموحدا، حيث يعاني من حزمة كبيرة من المشكلات كفيلة إحداها أن تدخله في دوامة عميقة لا يستطيع الفكاك منها بسهولة.

تحتاج القوى السودانية إلى التخلي عن التربص المتبادل بين العسكريين والمدنيين، خاصة أن داخل كليهما مشاحنات كفيلة بأن تجعل مسألة الالتزام بالمواعيد بشفافية ضربا من الخيال بعد أن أضحت ثيمة في الأدبيات السودانية حيث يعلن التوافق حولها ثم سرعان ما يتم التنصل لأسباب واهية.

كل تعديل في المصفوفة الحالية إذا لم يتضمن رؤية تحوي عقوبات على الطرف أو الأطراف المتسببة في تطبيقها سوف تظل آفة الوعود والعهود تواصل حلقاتها، ولن يثق المواطنون في أي اتفاقيات يتم عقدها بين القوى السودانية أو بين السلطة الحاكمة وجهات خارجية بعد أن باتت الخرطوم رمزا للتحولات السريعة في الاتفاقيات.

ربما تكون السيولة التي تمر بها البلاد منذ عقود سببا، أو لأن ساستها وعسكرييها وأحزابها وقواها المختلفة يتعاملون مع ذلك كنوع من البراغماتية في أسوأ حالاتها، وكلها عوامل تجعل الشك دائما والتفاؤل ضعيفا في خروج السودان من أزمته قريبا.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى