الاتفاق السعودي الإيراني وأثره على اليمن والجنوب

> لمجرد ذكر الصين في أي حدث عالمي تجد صدى ذلك يتردد في الدوائر الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية باعتباره حدث يهدد أمنها القومي فما بالكم وهي أي الصين دخلت على حين غرة في ملعبها الخصوصي ( منطقة الشرق الأوسط ) ولم تظهر الصفقة التي قامت بها الصين بين إيران والسعودية إلا بعد إعلانها.

مشكلات الشرق الأوسط متعددة الأوجه فهي خليط بين الأبعاد التاريخية والقومية والدينية وتتداخل فيها الجغرافيا كمحدد هام وتتكثف فيها الاقتصاد والسياسة كنتاج للإرث الاستعماري التي ورثته الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية كقائد للكتلة الغربية الرأسمالية في صراع الحرب الباردة وكانت هي اللاعب الرئيسي، تطلع من تريد وتسقط من تريد وظلت المنطقة مشتعلة بالحرائق دون حلول بل تخترع أحيانا وسائل جديدة للصراع وكان آخرها سياسة الفوضى الخلاقة التي ابتدعتها مع بداية الألفية الثالثة باستخدام أدواتها المتعددة ومن نتائجها تدمير عدد من البلدان العربية.

دخول الصين كلاعب جديد في المنطقة يعتبر اختراق جيوستراتيجي لحقل السياسة والاقتصاد والجغرافيا على النطاق العالمي في منطقة تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي مجالها الحيوي لأمنها القومي يترتب عليه تغيير هائل في ميزان القوى العالمي في العقود القادمة كما أنه تعبير عن فشل وإفلاس السياسة الأمريكية والغربية في المنطقة لكن من المبكر الحكم على نجاح أو فشل المساعي الصينية في حلحلة الأزمات المعقدة والمتعددة الأوجه في الإقليم ويعتمد ذلك على جدية الأطراف الإقليمية في التجاوب مع المسعى الصيني وتتطلب إلى جهد مضاعف من قبل الأطراف لكبح جماح القوى المحلية المتصارعة التي مازال لها ارتباطات بعجلة السياسة الأمريكية وتأثيرها الحاسم واستعدادها لتنفيذ الاتفاقات مع أن القضايا غير متشابهة.

رغم أن المصدر لتغذيتها واحد، الذي تتداخل فيه كل المحددات المذكورة أعلاه والذي تغذيه الدوائر الغربية بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي لن تتوانى في وضع العراقيل لعدم وصول هذه الاتفاقات إلى نهاياتها في فرض السلام العادل في المنطقة ومن جانب آخر من واجب الصين والدول الإقليمية المنخرطة في الاتفاق أن يستهدف التدخل أولًا كبح جماح الأطراف المتطرفة في الصراع وقبل كل شيء يعتمد ذلك على الدول المحورية الإقليمية كدلالة لإبداء حسن النية، وثانيا وقف الحملات الإعلامية وإعادة بناء إعلام بنَّاء يعتمد على الواقع والمستقبل وينهي علاقته بصراعات الماضي السحيق ، وثالثا أن تكون العدالة والإنصاف حاضرتين في النتائج المرجوة، وأخيرا أن يتوقف الجميع عن التدخل في شؤون تلك الدول الداخلية وأن يتحول الصراع إلى تنافس على الحياة والتنمية والاستقرار والأمن الجماعي المتبادل وهذه شروط لإنجاح الاتفاق ومصلحة مشتركة لجميع الأطراف.

ظلت المنطقة لعقود عديدة مليئة بالحروب والصراعات وبؤرة عالمية للإرهاب بكافة أشكاله وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تتلاعب بقضايا المنطقة وتشعل الحرائق وهي من تظهر نفسها بعد ذلك كعامل إطفاء وعلى مر التاريخ لم تحل أي قضية تدخلت فيها كوسيط وكانت تعتبر نفسها ضامنة لأمن الكثير من البلدان وبالذات في مرحلة الحرب الباردة، ولها عناصرها القوية التي تتكئ عليها في ممارسة هذا الضمان بحيث أن لا يخرج أحد عن سيطرتها وهي من تحدد متى يخرج وكيف تضمن البديل كما حدث أثناء سقوط شاه إيران الذي كان يمثل في زمانه شرطي السياسة الأمريكية في منطقة الخليج العربي، لكن سرعان ما تم استبداله بنظام الملالي الأمر الذي زاد أمن الخليج اختلالًا بسبب توجه ذلك النظام الطائفي وتمسكه بتصدير نموذج الثورة الإيرانية التي عمَّقت الأزمة وزادت أمن الخليج خطورة، حيث تسللت إيران عبر أذرعها المختلفة لتسيطر على أربع عواصم عربية، وكان ذلك ترجمة عملية لسياسة الفوضى الخلَّاقة التي اتبعتها أمريكا مع بداية الألفية الثالثة.

مسار الأحداث التي جرت في المنطقة شاهد على تفعيل دور إيران في الاتجاه المعاكس من قبل الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا، لتمكينها من السيطرة على عدد من البلدان العربية ابتداءً بلبنان ومرورًا بالعراق الذي سلم بعد إسقاطه إلى إيران ودخول إيران إلى سوريا وبعدها دخول اليمن بضوء أخضر من أمريكا التي لا يهمها في اليمن إلا محاربة الإرهاب والدواعش كما صرَّح بذلك الناطق الرسمي للبيت الأبيض، ويبدو أن صنعاء الانقلابية قد أخذت الإذن من أمريكا بالذهاب إلى عدن لمطاردة الدواعش والتي كانت أمريكا تعترف بتلك الشرعية التي أصبحت داعشية في نظر إيران، وهذا التحرك قلب موازين القوى في المنطقة ولم يكن اليمن المستهدف الوحيد ولكن كانت الجزيرة العربية بكل دولها هي المستهدف الرئيسي لهذه التحركات المريبة للتغيير الجيوسياسي في المنطقة.

دخول الصين كلاعب جديد في المنطقة سيرفع من أسهمها كلاعب دولي وأصبح لها موطئ قدم في منطقة تعتبر من المناطق الحيوية في العالم والصين، ليس لها ماضٍ استعماري وتقف على مسافة واحده بين كل الأطراف المتصارعة.

الاتفاق السعودي الإيراني تحت مظلة الصين يعتبر اختراق كبير لوضع كان يتلاعب فيه الأمريكان لعقود سابقه لإبقاء المنطقة في حالة توتر وقلق دائم وصراع بين الدول وباستخدام كافة الوسائل بما فيها إثارة النعرات الطائفية والتي يعتبر السلاح الأخير لتفتيت الأمة الإسلامية بعد أن انتهت صلاحية الأسلحة التي كانت تستخدم أيام الحرب الباردة وأصبحت غير ذي جدوى، ولهذا تكون الصين قد نجحت في الاختراق ووجهت ضربة للسياسة الأمريكية والغربية، لكن لا أعتقد أن أمريكا ستسلم المنطقة بسهولة وينتظر الصين والسعودية وإيران مسيرة صعبة وطويلة للوصول إلى نهاية المشوار.

الاتفاق مصلحة صينية وإيرانية وسعودية وكل منهم ينظر لها من زاويته، فالصين تريد أن تؤمن طريق الحرير وإيران، تريد أن تستعيد أنفاسها بسبب الوضع الداخلي الصعب والعقوبات المفروضة عليها وتريد هدنة لالتقاط الأنفاس، والسعودية تريد أن تؤمن حدودها الجنوبية وعدم استخدام اليمن كمنصة لإطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة والخروج من الحرب بشكل آمن، إذًا كلٌ يفتش عن مصلحته أولا وهذه هي الحقيقة المجردة التي نراها ونحن نرى أن تحسين العلاقات بين الدولتين الأساسيتين في الإقليم مكسب كبير لإحلال الأمن والسلام في المنطقة، إن أخلصت النوايا وابتعدت عن الطموحات الغير مشروعة لها في تلك البلدان المستهدفة.

بالمناسبة فنظرة الصين للمنطقة ستكون بعين المصالح التي ستجنيها من تدخلها ومن يعتقد بأنها ستأتي لتقود ثورة أو تغيير أنظمة أو استبدالها أو تبنيها لمواقف محددة فهو واهم، فمن لم يستطع أن يستوعب اللحظة الراهنة ويعد نفسه أو بالأصح يقدم نفسه كعامل أمن واستقرار في المنطقة فلن يجد له موقع على الخارطة.

اليوم الصراع هو صراع الاستحواذ على المصالح وتأمينها بالطرق التي تناسب مصالح المتوافقين عليها، لقد ولَّى عصر نشر الفوضى الخلاقة التي سنتها أمريكا مع بداية الألفية الثالثة، التي بواسطتها دُمرت بلدان وشُردت شعوب ووضعت قوى في الصدارة لتنفذ أجنداتها، وعند الانتهاء منها ترميها وتستبدلها بغيرها، وكان أحد أسلحتها الرئيسية تعميق الصراع الديني بين الطوائف الإسلامية وخلق بؤرة إرهابية تحت مسميات مختلفة تعصف بالبلدان المستهدفة من داخلها وأصبحت صناعة الإرهاب سياسية محلية وإقليمية ودولية، وكل لديه برنامجه وأهدافه وساحته ومعركته الخاصة.

حتى الآن ظهر بأن وتيرة إعادة العلاقة بين السعودية وإيران تسير بخطى سريعة، وتم إعادة السفارات والقنصليات والخطوط الجوية للبلدين والزيارات وغيرها وهذا مكسب تحققه الصين في وقت قياسي، هذا الشيء يوفر أرضية لتسوية بقية القضايا المتصارع عليها في المنطقة ونأمل أن تستمر عملية الوفاق بينهما لأنه سيشكل أرضية تمهد عمليات التسوية لبناء مرحلة جديدة تنعم فيها المنطقة بالأمن والاستقرار.

فيما يخص وضع الأزمة اليمنية لم نلاحظ وجود الصين بشكل ظاهر وعلني فيما يدور الآن من مسلسل الاتصالات والاجتماعات والرحلات المكوكية مع الحوثي عدا وجود إيران والسعودية وعمان، ونعتقد أن بصمات الاتفاق بين السعودية وإيران تحت رعاية الصين موجود وملحوظ، ولكن مثل هذه التحركات التي تسير بوتيرة عالية منذ فترة سابقة قبل تسوية العلاقات السعودية الإيرانية غاب عنصران مهمان عنها، وهما الشرعية التي من أجلها قامت عاصفة الحزم والمجلس الانتقالي الذي أصبح رقما في المعادلة السياسية اليمنية كونه يمثل شعب الجنوب الذي استطاع بمقاومته المسلحة من هزيمة الانقلابيين في الجنوب وساهم مع التحالف لتحرير الساحل الغربي حتى مشارف الحديدة.

كما يبدو بأن الصفقة قد أصبحت شبه جاهزة، ويتم مراضاة الانقلابيين على قبولها أولا بينما المجلس الانتقالي والشرعية يعتقد الرُعاة بأن قبولهما الاتفاق المرسوم سيكون تحصيل حاصل، ولا ندري على أي قاعدة استنتج رُعاة الاتفاق بأن البقية سيوافقون على الصفقة كما هي دون مراعاة طموحاتهما، لكن قد تقبل الشرعية، لأنها أضعف الحلقات في العملية السياسية، أما المجلس الانتقالي لن يستطيع أن يقبل أي صفقة أو تسوية تتعارض مع تطلعات شعب الجنوب إلا بعد الحصول على ضمانات مكتوبة، دولية وإقليمية في حقه باستعادة دولته كاملة السيادة، بعد أن فشلت الوحدة مع الشريك السابق ولن تكون ذات أهمية أي وحدة أو قبولها من قبل الجنوبيين مع انقلابيين يدّعون أن حكمهم تحت مسمى "آل البيت" وأن ذلك حقهم الإلهي، إضافة إلى ارتباطهم الوثيق بنظام ولاية الفقيه في إيران، وإن قبلت الشرعية الشمالية فهذا حقهم ولا اعتراض عليه، لكن بالنسبة للجنوب مستحيل قبوله لتعارضه مع كل القيم الجنوبية ومع التاريخ والجغرافيا، ولأن الجنوب دفع ثمنا غاليا دفاعا عن أرضه من غزوات الشمال ومع ذلك أي صفقة يجب أن تكون متوازنة ومتوافقة مع الأمر الواقع الذي فرضته الحرب ومع حجم التضحيات التي قدمها الجنوب حتى تتمكن كافة الأطراف من ترتيب الوضع النهائي، أما فتح الأبواب وكأن شيئًا لم يحصل فهو الهروب إلى الأمام وإدخال اليمن شماله وجنوبه في متاهات لها أول ولكن ليس لها آخر.

دور الأمم والمتحدة خلال سنوات الحرب وما قبلها غير مؤثر وسلبي، وهذا الموقف المتذبذب هو الذي تركها على رصيف الأحداث غير فعالة، بل في أحيان كثيرة تضع نفسها في موضع اللامبالاة، ولم تكن حاسمة في تحديد موقفها بجدية تجاه من يرفض الاتفاقات ويخرقها مرارا، ولهذا لم تنجح في مفاوضات الكويت أو جنيف الأولى والثانية وأما مفاوضات ستوكهولم فقد سلَّمت ميناء الحديدة للحوثي ولم تتابع بنود الاتفاق الذي لم ينفذ حتى اليوم وهي تهدر الوقت والإمكانيات، وكأن ممثليها لا عمل لهم غير رحلات سياحية بين الأطراف المتقاتلة.

تحتاج الصين كما عهدناها إلى صبر ومرونة عالية، وفهم عالٍ لطبيعة المشكلات الداخلية لكي تنجح لأنها ستسير على حقول ألغام متعددة الأنواع وصانعو هذه الألغام مازالوا متحفزين للسير على نفس المنوال ولم يغيروا من جلدهم وحتى أصبحت الأزمة اليمنية أكثر تعقيدا وتتداخل فيها كل القوى الإقليمية والدولية بشكل مباشر، وتعتبر ساحة مفتوحة لمن يريد أن يتدخل ، السؤال هل سترغم الصين زارعي الألغام على كشف خوارطهم وإلزامهم بنزعها والسير باتجاه السلام والسبيل الوحيد لتوفير الأمن والاستقرار المستدام يأتي عبر إعطاء كل ذي حق حقه غير منقوص فالمهمة صعبة للغاية فقد فشل في تحقيقها الإقليم والأمم المتحدة لأن المتدخلين فيها كثر على النطاق الإقليمي والدولي وعلى حساب أمن واستقرار شعوب المنطقة، نأمل أن تكون البداية صحيحة حتى نضمن نهايات ناجحة.
خاص بـ "الأيام"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى