ين يقدّم الجنوبيون خلافاتهم على مستقبل بلادهم يصبحون ضعفاء تابعين، ويقع البعض منهم في شبكة الأدواتية لتحقيق مشاريع الآخرين. هذا ما قاله التاريخ وما يزال يكرره بصوت أعلى وأكثر وضوحا، ويعيد الواقع صداه في كل حين. لهذا تتعاظم الحاجة لأن ينجز الجنوبيون حوارات موضوعية تفضي إلى اصطفاف سياسي واسع وتشكيل ائتلاف وطني أو جبهة صلبة، لضمان الصمود أمام أي مخاطر قادمة. الجنوب بحاجة إلى طبقة سياسية متماسكة وواعية تنكسر عليها كل محاولات الترويج للفرقة والفتن وبث اليأس ومحاولات ضرب الجنوب بالجنوب.

التاريخ يقول مجددا: أيها الجنوبيون وأطياف النخب لا تحفلوا بمن يحفزكم للخصومات الداخلية، ومن يشبع كبرياء هذه المنطقة أو تلك بالكلمات المسمومة أو من يزرع في عقولكم شرارة الفتنة كي تتجهوا نحو التدمير الذاتي.

لقد لعب الإعلام المضاد ومنصات السوشيال ميديا دورا مخادعا وبشعا في زرع الفتن وتصوير الجنوب وكأنه بلد متناحر داخليا، وغير مؤهل أن يعيش مستقلا. وسخرت دول إقليمية وأحزاب إمكانات ضخمة، وحركت ماكينات إعلامية ومحطات تلفزة ومنصات وخلايا مدربة، لهدف واحد وهو زرع وتنمية حس غوغائي شعبوي، وتحويل وعي العامة من الناس إلى وعاء فارغ، أو مكبّ لنفايات ملوثة لكي تعلو أصوات الميديا والذباب الإلكتروني فوق صوت الفكر والعقل السياسي. ولو كان بمقدورهم لوضعوا "خوارزمية بيولوجية" لبرمجة سكان الجنوب وتحويلهم إلى مجرد كتل بشرية تكسر بعضها بعضا.

وفي ظل الضعف اللافت لدور وتأثير النخب الجنوبية ينساق بعض العامّة خلف الموجات الإعلامية الممنهجة دون تفريق بين قضية بلادهم وبين مواقفهم من أفراد أو مكونات.. ويساهمون دون وعي في محاولة إحداث انقسامات ديموجرافية وعزل المحافظات عن بعضها وخلط كثير من المفاهيم. وهكذا تتشوه الحقائق و منظومة القيم والانتماء، ويصبح حديث العقل مقموع لصالح التهريج المناطقي، الذي أصبح له وقع "السحرية الخيميائية" عند البعض، يطرب العواطف المعلولة حتى وإن كان المتحدث (مضروبا) في وعيه و موقفه أو تاجر كلمة.

وبينما تولي الأحزاب والنخب اليمنية المتحاربة اهتماما كبيرا للحفاظ على النسيج الاجتماعي بين محافظات الشمال، وتعتبر ذلك مسألة ضمير وطني، إلا أنها تسخر إمكانيات وتبذل جهودا كبيرة لتفتيت المجتمع الجنوبي.. حيث ترى "التيارات الإسلامية" بالذات أن هذا الفعل مهمة "جهادية" للحفاظ على "الوحدة" التي لا تستقر إلا حين يتشظى الطرف الآخر.

وبناء على ذلك يجتهد الخصوم في أن تتجسد في اللاوعي صور وأنماط "جنوب مجزأ" غير قابل للحياة إلا حين يصبح تحت حكم صنعاء يتبعها أينما توجهت… وإن قررت أن تعود ألف عام إلى الوراء، عليه أن يعود معها، وأن يوفي بعهده الوحدوي حتى وإن كان "من عهدها أن لا يدوم لها عهد".

الجنوب شعب خال من الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية الحاضرة والمؤثرة في البنية السياسية والثقافية والاجتماعية، ولا توجد نزاعات تاريخية على عقائد أو فضاء أو أرض، بل إن الحروب و الغزوات على الجنوب كانت تاريخيا تأتي من الشمال، منذ عهود الإمامة وحتى 1994و 2015، إضافة إلى حروب ونزاعات ظلت مستمرة بين الدولتين الجمهوريتين. وتلك حقيقة يحاول الكثيرون طمسها وإبراز أحداث واجهت دولة الجنوب داخليا قبل أكثر من 35عاما، واعتبروها نهاية التاريخ و يتم توظيفها لكسر تطلعات الجنوبيين. ذلك لا يعني أن للجنوب عداوة أو ثارات مع إخوته في الشمال لأن الروابط الشعبية كثيرة و قوية ودائمة. وهذا حديث آخر.

لا مفر إذن من الحوار الجنوبي الجنوبي، وعدم التوقف عند خط محدد، بل يتعين أن يستمر ويتطور ويتسع حتى إصلاح الذات وتحصين النسيج الداخلي. ويدرك الجميع أن المواقف لا تبنى على أساس انتقامي أو ردود فعل غاضبة، بل هي فعل عقلاني وتطلعات نحو المستقبل.. وأن السياسة ليست خطابات إعلامية فوضوية، وإنما خيل لا يعتليها إلا من يستجيدها من الفرسان.