بيوت الأدباء تاريخ ماثل

>
كانت المرة الأولى في حياتي التي أستقل فيها قطار المترو من محطة ساحة النصر في وسط العاصمة البيلاروسية مينسك إلى المحطة التي تليها مباشرة وهي محطة "ياكوب كولاس"، وبمجرد وصولي المحطة وصعودي درجات تؤدي إلى الشارع العام إذا بي أمام نصب تذكاري يبلغ ارتفاعه حوالي ثمانية أمتار ويقع في حديقة صغيرة زرعت بأشجار البتولا البيضاء وأنواع الزهور الملونة، ويمثِّل النصب رجلاً جالساً وواضعاً يده اليمنى أعلى صدره وحاملاً كتاباً باليد الأخرى، وقفت دقائق أتأمله وأتأمل ما حوله من نوافير ومنحوتات صغيرة تشكل في مجملها عملاً فنياً متكاملاً أشبه بقصة منحوتة في ساحة عامة.

حينما سألت معلمتي البيلاروسية عنه فيما بعد أخبرتني أن النصب يجسد شخصية واحد من أهم وأشهر الأدباء الكلاسيكيين البيلاروس وهو ياكوب كولاس ( 1882 - 1956 ) وأن اسمه الحقيقي هو كونستانتين ميخايلوفيتش، وهو شاعر وأديب وكاتب مسرحي ومترجم وناقد ووصفته بمؤسس الأدب البيلاروسي، وقالت إنه يلقب بشاعر الشعب لكثرة كتاباته عن الفلاحين وحياتهم، ونصحتني بزيارة بيته القريب الذي عاش آخر أحد عشر عاماً من حياته فيه وصار متحفاً منذ عام 1956 وهو عام وفاته.

  كلام معلمتي بفخر عن كولاس كقامة شعرية وطنية سامقة ومؤثرة في الأدب الشعبي البيلاروسي أثار في نفسي الرغبة في زيارة متحفه .. وزرته بالفعل فرأيت هناك كيف يتم الحفاظ على التاريخ الأدبي وإشراقات اللغة القومية لشعب يضع مسألة الاهتمام بأعلامه المبدعين وتخليد أعمالهم وذكرهم كرموز وطنية أولوية في كل مراحل حياته وتطوره. لا أستطيع وصف كل ما شاهدت في متحف ياكوب كولاس فربما لا تساعدني الذاكرة على استحضار أغلب مشاهداتي لحظتها، ولكني أتأمل الآن صوراً عن تلك الزيارة تتراءى لي من وراء حجب السنين وأتبيَّن منها آلاف القطع التي رأيتها في البيت المتحف من الأغراض الشخصية للشاعر ومن الكتب والدفاتر والمخطوطات والوثائق والرسائل والصور واللوحات والأعمال الفنية والآلات الموسيقية مثل البيانو والكمان والأثاث الذي كان يستعمله .. كل شيء كان مرتباً ونظيفاً وأنيقاً يوحي بوجود صاحب البيت كما لو أنه لا يزال حياً.

   بعدها وفي فترات متفاوتة بدأت أشعر بانجذاب عجيب نحو متاحف الأدباء والشعراء والفنانين التي هي في الأصل بيوتهم حيث عاشوا وأبدعوا أروع الأعمال الخالدة، فزرت متحف يانكا كوبالا أحد الشعراء البيلاروس الكبار ( 1882 - 1942 ) ويعتبر متحفه من أقدم المتاحف الأدبية في بيلاروسيا افتتح أمام الزوار عام 1945 ويحفظ تراث الشاعر ويعرض صوراً من حياته وأعماله ودوره الأدبي والثقافي وطنياً وأوروبياً.

وكنت كلما أزور مدينة أسأل عن متاحف الكُتّاب والأدباء والفنانين وأحرص على زيارتها لاكتشاف ما فيها من أسرار وحكايات والوقوف على مصادر الإلهام والإبداع والجمال. والشيء المهم هنا أن الجهات الحكومية الرسمية في كل مدينة هي من تقوم بتحويل بيوت مبدعيها الكبار بعد وفاتهم إلى متاحف وتتولى إدارتها وتشغيلها وجعلها مزارات سياحية تنقل صوراً راقية عن تاريخ البلاد وثقافتها وحضارتها.

  الآن وبعد كل هذه السنوات لا يزال يستهويني هذا النوع من المتاحف والسياحة ومن خلال القراءة في بيوت العباقرة الأفذاذ الذين أثرَوا حياتنا وجمَّلوها بإبداعاتهم الخالدة .. أبحث في الكتب والمجلات عن أي موضوع يتحدث وينقل صوراً من داخل أي متحف من تلك المتاحف لأرى جوانب من حياة أصحابها العظماء أين كانوا يجلسون ويكتبون أو يقرأون، أين كانوا ينامون، أرى أوراقهم .. أقلامهم وكل شيء يعكس طبيعة حياتهم فأحس بوجودهم وأشعر بأنفاس أرواحهم وإن كانوا في الراحلين، لكنهم الباقون سواء بآثارهم الفكرية والأدبية أم المادية المتمثلة في بيوتهم / المتاحف.

  نحن في عالمنا العربي لدينا الكثير  من الأسماء الكبيرة الخالدة في الآداب والفنون والفكر والثقافة نستطيع أن نباهي بأصحابها الدنيا كلها .. نعم هناك بعض المتاحف الخاصة بتلك النباريس المضيئة في بعض الأقطار العربية وهي قليلة جداً والتي هي في الأساس بيوتهم التي عاشوا فيها وأصبحت مزارات يؤمها الناس من كل مكان، لكن في المقابل ثمة عظماء ومبدعون استثنائيون وفريدون رحلوا ولم يتركوا غير آثارهم الأدبية لا نجد لهم متاحف، بل ربما لا نعرف بيوتهم التي عاشوا فيها، وإذا عرفناها تكون معالمها قد تغيرت وملامحها تبدلت ولم يعد هناك ما يدل عليهم.

عن مجلة الشارقة الثقافية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى