حميدة نعنع عاشت فصول الرواية التي لم تكتبها

> فاروق يوسف:

>
​"ما أنبل أن يعيش الإنسان من أجل قضية".  "ما أشد وجع الذين يملكون ذاكرة وتاريخا ". جملتان وردتا في روايتها “الوطن في العينين” يمكنهما أن تلخصا شيئا من سيرة بنت إدلب التي عاشت حياة هي أشبه بالمغامرة. تنتقل من مكان إلى آخر بحثا عن الجوهر الإنساني الذي أدركت في سن مبكرة أنها لا يمكن أن تمسك به في مكان بعينه، بل سيفجعها أنها لن تقبض عليه إلا مفتّتا بين حيوات كثيرة تمنت لو أنها عاشتها مجتمعة. هل تمكن منها قلق الجغرافيا فصارت تضع قدمها على أرض فيما عينها تنظر إلى الأفق بحثا عن أرض أخرى وكانت قد مزجت السياسة بعواطفها لتهب العواصف فرصة لحملها إلى الأقصى دائما؟

حميدة نعنع الروائية والصحافية وقبلهما المناضلة الملتزمة بالمبادئ لا تلتفت إلى تاريخ صداقاتها، إلا باعتباره سجلا لإنسانية حرصت على أن تشكل مادتها من تجارب عيش وتأملات فكر وقفز على الحواجز وتمرد على الواقع جريا وراء الحقيقة.
  • صوت الأقلية المؤمنة
ألم يكن الصبح داميا في عدن؟ بعيني الفدائية السابقة عاشت التجربة المؤلمة لتكتب تاريخا من نوع مختلف. ولكن الصباح صار داميا في كل مكان. هو ألم لا تعرفه سوى أقلية تؤمن بثوابت حياة عريقة لم تهزها الزلازل التي ضربت العالم العربي. نعنع هي بنت تلك الأقلية بل هي صوتها الصارخ في برية العالم.

وهكذا سلكت نعنع الطريق الصعبة التي ستتشعب في ما بعد لتكون طرقا، بعضها يقع على خرائط الجغرافيا حين كثرت المدن التي زارتها وأقامت فيها ونُفيت إليها، والبعض الآخر كان قد قادها إلى دهاليز السياسة حين تعددت صداقاتها لقادة وسياسيين وأدباء باختلاف رؤاهم ومعتقداتهم ومشاريعهم. وهنا تورد أسماء، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ورجل الدبلوماسية العراقية طارق عزيز، والرئيس التونسي زين العابدين بن علي.

وفي ظل تلك الحيوية الصحفية حرصت حميدة نعنع على ألا تفارقها الحكايات التي شكلت عالمها الروائي، الذي كان تعبيرا عن وجع صلتها بحياة عاشتها بعمق وحماسة وشعور عميق بالانتماء إلى روحها المتمردة.
  • قلق الكتابة
ولدت حميدة نعنع في إدلب شمال سوريا عام 1946. درست اللغة العربية في جامعة دمشق وعملت في الصحافة وانتمت عام 1967 إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وشاركت في تنفيذ عدد من العمليات الفدائية، قبل أن تنتقل إلى باريس للإقامة والدراسة. عملت صحافية في اليونسكو وكانت في الوقت نفسه مراسلة لصحيفة السفير اللبنانية.

حين انتقلت للعيش في الجزائر عملت مديرة لمكتب السفير في شمال أفريقيا، كما أدارت مجلة “أفريك أزي”. وبحكم عملها فقد تنقلت بين تونس والجزائر والمغرب. حين عادت إلى باريس أصدرت مجلة “الوفاق العربي”.

عام 1970 أصدرت كتابا شعريا بعنوان “أناشيد امرأة لا تعرف الفرح”. بعده أصدرت عددا من الروايات والكتب السياسية. من رواياتها  "مَن يجرؤ على الشوق"  و”الوطن في العينين "  وأصدرت في السياسة  "طارق عزيز رجل وقضية" و”الصبح الدامي في عدن " وفي مجال المقالة أصدرت  "من دفاتر امرأة" كما أصدرت كتاب "حوارات مع مفكري الغرب".

منذورة للكتابة حميدة نعنع. ولكن أي كتابة؟ بالتأكيد هي كتابة حياة، قد يظن البعض أنها كانت نزهة بين المدن والأفكار. ولكنها في الحقيقة كتابة تعبر عن تجارب ملغومة بأسئلة الوجود، يضفي الزمن من خلالها قوة ملحمية مختلفة عن المكان الذي يحتضنها.
لقد اخترقت الكاتبة حياتها في الكتابة بعصف تجربة عيش، لا وجود للتسويات الوسطية فيها. كان الالتزام هو العمود الفقري لكتابة تشبهت بالحياة وحياة اكتسبت الكثير من معانيها من الكتابة.

لقد عاشت نعنع عبر الزمن الذي قضته في الغرب قريبا منه جغرافيا، وإن ابتعدت عنه، فهي تظل مسكونة بحداثة ثقافته ومصدومة بسياساته العنصرية. كان حوارها مع الآخر يتطلب معرفة به، وهو ما فعلته حين تعمقت في فهم تجربتها. في إطار تلك التجربة المزدوجة سعت إلى أن تزيد من شحنات الوعي التي شعرت أن القارئ في حاجة إليها في مواجهة التضليل الإعلامي.

بعد خبرة الألم ونشوة الدفاع عن المبادئ قد لا يكون مفاجئا أن تلخص جانبا من تجربتها في الصراع المضني حين تقول:  "هذه التجربة التي عشتها في الغرب كانت كلها ممزوجة بالعذابات وبالغربة الصعبة بكل معانيها. فإذا سئلت فيما كنت سأعيد التجربة مرة أخرى أقول لا، بل سأعود إلى قرية صغيرة شمال سوريا وأستقر هناك".
  • عاشت الرواية
لكن، هل وظفت نعنع الكاتبة الصحافية في خدمة الروائية؟ ما حدث أن الصحافة التهمت الجزء الأكبر من حياتها، ولم تمكنها من نشر أكثر من روايتين. هل صدرت الثالثة؟ ذلك ما لا يمكن أن أؤكده.

الحياة التي عاشتها نعنع هي عبارة عن مجموعة متلاحقة من الحكايات، التي يمتزج من خلالها الواقعي بالمتخيل، ويمكن لها أن تكون مادة لعدد كبير من الروايات المحملة بالكثير من عناصر التشويق والشد والسحر والدهشة.

من العمليات الفدائية التي شاركت في تنفيذها يوم كانت جزءا من الكفاح الوطني الفلسطيني المسلح، إلى اضطرارها إلى الهجرة قسرا باعتبارها منفية، إلى ذهابها إلى المناطق الساخنة بمهمات صحفية ودفاعها عن حقوق الشعوب، إلى الظروف التي يسرت لها إجراء المقابلات مع رؤساء الدول والزعماء السياسيين والمفكرين، إلى معرفتها بأسرار السياسة العربية، إلى مواقفها الإشكالية الثابتة في الدفاع عن قضايا الأمة، تمتد معادلة الوضوح والإبهام التي يمكن أن تُقام عليها أجمل الأعمال الأدبية المتخيلة.

في كل الأحوال لا يحق لي أن أضع الأمنية محل الواقع. في روايتيها مزجت الكاتبة بين عالمين ملتهبين، الأول عاشته والثاني تخيلته. من خلال ذلك المزيج بثت أفكارها ومشاعرها وأعلنت عن تمردها على السائد والمتداول من الأفكار التي لا تعتبرها جزءا من عصرنا أو تشوه الحقيقة. كانت سيرتها حاضرة في ذلك المزيج وإن بطريقة مواربة.

عاشت حميدة نعنع أحداث الرواية التي لم تكتبها. الحالمة بعالم أكثر عدلا، لأن حياتها تشكل مادة لرواية بتجليات شتى، فإن كاتب سيرتها سيجد نفسه يوما ما أمام عالم حيوي ونضر مليء بما يدهش ويفاجئ، يسرّ ويؤلم. فالكاتبة التي حرصت على أن ترتبط بقضايا الشعوب، ووقفت في وجه أجهزة التضليل والخداع الإعلامي في اللحظات الحرجة، التي انتصر فيها الباطل، لطالما تعرضت للهجومات التي هدفت إلى إسكاتها والتخلص مما كانت تمثله على مستوى النزاهة، في قول الكلمة الحرة التي اعتبرها الكثيرون بضاعة خاسرة في زماننا العربي المحبط.

ومثلما آمنت بالمبادئ القومية فإنها كانت دائما تثق بالكتابة، كونها وسيلة للوصول إلى الحقيقة وإبطال مفعول الزيف.

حميدة نعنع امرأة استثنائية لا تتعب من تأثيث حياتها بكل أشكال المقاومة والتمرد على الواقع والحلم بعالم أكثر عدلا.
"العرب"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى