​مكتبات الأرصفة.. كنوز منثورة

> اعتدت حين أسافر أن أصطحب معي صديقين أو ثلاثة من أصدقائي الأوفياء (الكتب)، فصحبتهم في الرحلة أنس للنفس وراحة للروح وإثراء للعقل وفيها فوائد للفكر تغنيه بكنوز من العلوم والآداب والمعارف الإنسانية، فقد كان هذا ولا يزال دأبي مع بداية كل سفر جديد. أول ما أفكر فيه هو اختيار الصاحب في الرحلة، هل يكون ممن أعرفهم وطالت مدة افتراقنا فتكون صحبته تجديدًا لعهد سابق بيننا وأجدها فرصة لاكتشاف جوانب في شخصيته ربما خفيت عني في لقائنا التعارفي الأول، أم يكون صديقًا جديدًا ألتقيه للمرة الأولى ليكون رفيقي في السفر؟ عدد من الأسئلة يشغلني قبل بدء السفر، وفي كل الأحوال لابد من وجود هؤلاء الأصدقاء في الترحال إلى أي مكان في العالم، فيا حبذا السفر معهم ويا بئسه من دونهم.

في إحدى سفراتي القصيرة إلى إحدى الدول العربية، وبينما كنت أتجول في أحد شوارع مدينتها العتيقة وقفت على إحدى مكتبات الأرصفة وقد امتلأت بالكتب، بعضها قديم وبعضها يبدو جديدًا وقد تناثرت بلا ترتيب ولم ترص بشكل منظم، يقوم عليها رجل يبدو في الستين من عمره، جلت ببصري على بعض أغلفة تلك الكتب المتناثرة لأقرأ عناوينها، ويا لها من مصادفة عجيبة حين وقفت على كتاب كنت قد حملته معي في رحلتي تلك ولم أكن قرأته بعد، تناولت الكتاب وبدأت في تصفحه لثوانٍ، لكن خطر لي أن أسأل البائع عن موضوعه لا عن سعره فما كنت لأشتريه وهو موجود عندي، وحين سألته لم يتأخر في الرد وأدهشني بحديثه وهو يبسط أمامي موضوع الكتاب ويبين فكرته الأساسية وحتى أنه كشف لي عن جانب من سيرة وشخصية مؤلفه، حين عدت إلى الفندق الذي أنزل فيه وبدأت بقراءة الكتاب وجدته كما وصفه البائع، ووجدت فيه كثيرًا من الأفكار التي تحدث عنها، هذا يعني أنه قرأ الكتاب واستوعبه إلى الحد الذي بقي في ذاكرته ولم ينسه، وعندما عدت إليه في اليوم التالي عرفت منه أنه يقرأ كل كتاب يحصل عليه قبل عرضه للبيع.

هذه الحكاية وموقفي مع بائع الكتب أعادتني سنوات إلى الوراء وذكّرتني بصديق لي كان لا يكل ولا يمل من الوقوف مطولًا عند مكتبات الأرصفة التي تزخر عادة بالكتب القيمة في الآداب والفنون والعلوم وكتب التراث والتاريخ واللغة وغيرها من مجالات الإبداع والفكر والمعرفة، وهي كتب كانت محفوظة في بيوت ومكتبات شخصية ثم انتقلت إلى أرصفة الشوارع لعدة أسباب ربما منها وفاة أصحابها وعدم رغبة ورثتهم في إبقائها لديهم، أو الاضطرار إلى بيعها نتيجة فقر أو حاجة مادية ملحَّة وغيرها من الأسباب التي تجعل من يمتلكون تلك الكتب يتخلون عنها لمنفعة مادية في أغلب الأحيان، هذا الصديق العاشق للقراءة والشغوف بمكتبات الأرصفة كان يحدثني في أي لقاء لنا عن كل كتاب يطلع عليه ويتصفحه خلال وقوفه أمام أي من تلك المكتبات، فقد كان لا يترك الكتاب إلا وقد أخذ بغيته واستفاد منه شيئًا جديدًا، أما أنا فإلى جانب أن الأمر هذا كان يستهويني أيضًا - أعني المرور على مكتبات الأرصفة بين الحين والآخر - إلا أنني كنت أرى فيها متاحف مفتوحة على القراءة والثقافة والذكريات وعلى جزء أصيل من حياة أدباء وشعراء ومثقفي المدن التي توجد فيها تلك المكتبات.

أذكر أنني ذات صباح - وكنت يومها في العشرين من عمري - وبينما كنت أسير في أحد الأسواق التراثية في مدينة عدن مسقط رأسي، توقفت أمام مكتبة تبيع الكتب المستعملة على الرصيف، وإذا ببصري يقع على ديوان شعر بين الكتب المتناثرة فمددت يدي وتناولته، وبمجرد أن فتحت الصفحة الأولى رأيت إهداءً بخط يد الشاعر نفسه صاحب الديوان إلى أحد أصدقائه الأدباء، وكان إهداءً ملفتًا فيه ومضة مدهشة من البلاغة وجمال الخط والتعبير، وفي ظني أن إهداء كهذا يعدُّ وثيقة أدبية مهمة حين التأريخ لأي حركة شعرية معاصرة، يومها اشتريت الكتاب ورجعت بفائدتين أولاهما متعلقة بالقراءة أما الثانية فهي التي حفزتني فيما بعد وزرعت في نفسي الرغبة الدائمة لارتياد متاحف الأرصفة والبحث عنها في أي مكان للأخذ من تلك الكنوز المنثورة واكتساب الفوائد واكتشاف عوالم فريدة ومعرفة أسرار جديدة .
"عن مجلة الشارقة الثقافية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى