على ضوء صمود غزة.. التطبيع مع إسرائيل إلى أين؟

> برجاحة عقل مصر، وهي تستقر على إرث سبعة آلاف سنة من المدنية الحضارية، أن مصر جعلت من التطبيع مع العدو الإسرائيلي مكلفًا وثمنه باهض، تحرير كل سيناء، وحصر التطبيع في مستواه الدبلوماسي الفوقي دون فتح قنواته شعبيًا واجتماعيًا وثقافيًا، كما كانت تحلم إسرائيل بأن يسير التطبيع على كل المستويات وبما يحقق الاختراق الصهيوني للمجتمع المصري.

وهذا الحصاد لم يتأتَ لمصر إلا لأنها انتصرت في حرب أكتوبر عام 1973م، النصر الذي أفقد إسرائيل ومن ورائها وأمامها أيضًا الولايات المتحدة الأميركية توازنها.

وهو ما خطط له الرئيس البطل محمد أنور السادات وتآزرت مع مصر البلدان العربية كما لم يحدث ذلك من قبل، وخاصة باستخدام النفط سلاحًا في المعركة أوعلى حد مقولة الملك فيصل: النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي.

وكان الثمن باهضًا أيضًا، ردًا على ذلك النصر وعلى تلك المؤازرة بين العرب: اغتيال الرئيس السادات والملك فيصل في حادثتين منفصلتين، ودون أن نعطي لأدوات التنفيذ الإرهابية المارقة صفة الأداء العبقري في التنفيذ، لعلمنا أن الأصابع التي حركت وتحرك هؤلاء المأجورين هي أصابع صهيونية وأمريكية. وجرت مياه كثيرة في القنوات والجسور العربية وخاصة - وهو الأهم - في الفترة التي أعقبت سقوط الثنائية القطبية بسقوط الاتحاد السوفيتي مطلع العشرية الأخيرة من القرن الماضي، ما جعل البلاد العربية تخضع للهيمنة الغربية الرأسمالية بأبشع صورها؛ الإمبريالية المتوحشة. حيث كشفت تلك الهيمنة عن مخططها الاستهدافي للمنطقة وأخرجت للنور خرائطها التوسعية الجديدة التي هي أبشع من الصيغ الاستعمارية الكلاسيكية القديمة، التي عرفها العالم في القرن التاسع عشر ونصف القرن العشرين، قبل أن يطوي الاستعماريون سجلهم المخزي ويحملون عصاهم الاستعمارية - كما وصفها جمال عبدالناصر- من البلاد المستعمرة.

لم تطوَ تلك السجلات القذرة إلا بصراع ثوري وشعبي وسياسي ودبلوماسي عنيف، كان نصيب الأسد فيه لمصر العربية بقيادة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر. إن على مستوى الوطن العربي أو أفريقيا وآسيا أوأمريكا اللاتينية، وإلى جانب مصر عبدالناصر، الهند (نهرو ثم ابنته أنديرا جاندي) ويوغسلافيا بزعامة جوزيف بروز تيتو، وغيرهم من زعماء العالم الثالث بما في ذلك الصين.

ولذلك تصدرت العالم أمريكا بأحادية قطبيتها له، منتهزة الفراغ الذي أحدثه خروج روسيا من فلك التوازن العالمي، لتهيأ الملعب السياسي في منطقة الشرق الأوسط للهيمنة الإسرائيلية، بعد أن مزقت العراق وفتحت ساحة لها ولإيران وإدخال سوريا في براثن حرب تكاد تكون عالمية، و انطلاء ذلك على العديد من الدول بما فيها دول عربية، و تصدرت المشهد تركيا التي ينقلب السحر عليها اليوم بفضل صمود سوريا البطلة.

وكل ذلك المخطط يجري دائمًا في طاحونة إسرائيل ولفائدتها ولتحقيق حلمها بالولوج إلى مياه الخليج العربي الدافئة، بعد أن تكون قد أمنت ظهرها من العراق شرقًا وسوريا جنوبًا ودون أن ننسى ما حل بليبيا واليمن والسودان وقبلهم الصومال.

وكان بالإمكان أن تكتمل حلقات المخطط المرسوم للمنطقة، كما صوره شمعون بيريز في كتابه ( الشرق الأوسط الجديد) مطلع التسعينيات الماضية، لولا يقظة مصر وخروجها سالمة من نيران الربيع العبري مطلع العشرية الثانية من هذا القرن، وإن كانت الخسائر باهظة جدًا من العراق إلى سوريا ومن ليبيا إلى اليمن مرورًا بالسودان والصومال.

لكن الكارثي حقًا لو أن مصر قد سقطت بأيدي عملاء أمريكا وإسرائيل ضمن ذلك الهياج المقزز والمدمر الذي قاده الغرب بأذنابه في مصر وغيرها من بلدان الوطن العربي، وبقيادة الإخوان ومن خرج من عباءتهم من إرهابيين، لتجري عملية تقسيم ثانية للخارطة العربية بعد التقسيم المشؤوم اتفاق (سايكس / بيكو) أثناء الحرب العالمية الأولى 1914- 1918م، والمسمى ربيعًا والربيع منه براء.

إن جل ما نشاهده من مؤامرات على العرب يتجه إلى مصر رمانة الميزان، التي استطاعت في عهد قيادتها الحالية أن تنعش العلاقات العربية العربية وخاصة بين مصر وبلدان الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية.

كانت ولازالت مخططات التآمر تتجه إلى مصر المعرقلة لأحلام الصهاينة في الاستفراد بالمنطقة العربية، وتقديم إسرائيل كعراب للمنطقة، لكي تتفرغ أمريكا لتحديات مصيرية أكبر مع الصين وروسيا في شرق آسيا وشرق أوروبا وهي محاولات يائسة، للتقليل من خسائرها ولتأخير صعود التنين الصيني إلى مربع القوة الأول في العالم، تأخير –نقول- وليس إبعاد الصين عن ذلك المسار. ولذلك سنرى المؤامرات تتجه إلى مصر وتهديد كيان الدولة المصرية وأمنها القومي لكى تمر مجنزرات تعبيد الطريق الإسرائيلية إلى كل بلد عربي، تريده إسرائيل غنيمة.

ذلك لا يجعلنا في مربع الخوف ونحن نرى وعي الدولة المصرية يبني ويستعد لكل الاحتمالات. فالأمن القومي المصري خط أحمر لا ينبغي تجاوزه من أي كان، سواء في فلسطين أو من الحدود الغربية مع ليبيا، أومن أقاصي جنوب البحر الأحمر أومن أثيوبيا والسودان وهو ما تدركه مصر وجيشها البطل الذي في رباط إلى يوم الدين.

إن التشكيل الجديد لقوة ثنائية عالمية أفقدت أمريكا بعضًا من مراكز نفوذها، سوف يتسع على الخارطة العالمية بمعطيات التاريخ الذي لا تستقر لحظاته المتتالية عند نقطة ثبات واحدة، غير الموجودة أصلًا أو بمعنى فهم أرسطوطاليس: الثابت الوحيد هو التبدل المستمر.

وكان التعاطي متسقًا و منطقيًا للتحرر من الهيمنة الأمريكية عربيًا، سواء كان ذلك مصريًا أو سعوديًا وخليجيًا لتدخل الصين وروسيا واللاعبون الجدد، الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وغيرهم. رقعة المصالح المتبادلة مع العرب وإن كان ذلك في طور التدعيم والبناء للمستقبل دون اللجوء إلى المباشرة بالتحدي لأمريكا على طريقتنا في العنتريات القديمة التي جلبت لنا الدمار.

واللافت أن إسرائيل قد استفادت من وضع القضية الفلسطينية في رف الانتظار داخل أجندة الدول العربية مذ ربع قرن مضى، لأسباب داخلية وإقليمية والوضع المتوتر في غير مكان من الوطن العربي وبروز أولويات أخرى عند هذا الطرف أوذاك، خلاله تتمكن أمريكا من تقديم إسرائيل عروسها المدللة، لدخول من أراد الدخول في بيت الطاعة الأمريكية و الاحتماء من العواصف الهوجاء التي تهب على المنطقة من كل مكان، و كطريق ميسر تحبذه أمريكا بأن يحوز الحلفاء على رضى ربيبتها إسرائيل. لذلك انفردت إسرائيل بالمنطقة مستغلة فوبيا إيران وأذرعها في المنطقة، بينما إيران هي في الأصل جزء من الوهم الذي عملت على تسويقه السياسات الغربية، لتخويف دول الخليج وينسفه قليل من التمعن والتدقيق في السياسات المتبعة مع إيران وفي المنطقة العربية، بإزاحة أمريكا للعراق كقوة رادعة في البوابة الشرقية للوطن العربي في وجه إيران، وقبل ذلك تدخلها هي وإسرائيل لتسليح إيران في حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران وهي على وشك الانهيار أمام الجيش العراقي البطل، وهو ما سمي في حينه بفضيحة (إيران جيت).

ولذلك تسقط فرضية أن إسرائيل ستدافع عن دول الخليج الصغيرة من أطماع إيران التوسعية وسياسة تصدير ثورتها إلى المنطقة، لأن ذلك جزء من الاتفاق غير المعلن بين طهران والأطراف الغربية وتحديدًا أمريكا لتظل خزائن النفط تستنزف في شراء الأسلحة، ولكي تستمر تروس الماكنة الصناعية والمالية في الغرب في الدوران.

وليس أنجع في مواجهة هذا المخطط من سياسة الدفاع العربي المشترك، المنصوص عليه في ميثاق الجامعة العربية والاعتماد على مصر وقدراتها العسكرية إلى جانب ما تمتلكه المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، من إمكانيات ضخمة ليس في الثروة وحدها، و لكن في مجال بناء الإنسان والتقنيات والقدرات العسكرية، وقد رأينا بوادر إيجابية من ذلك في السنوات الأخيرة.

إن التطبيع مع إسرائيل بكل ما تمتلكه من نفوذ طاغٍ عالميًا مدعومة وبشكل أعمى من الغرب سوف يكون خطرًا مباشرًا على سلامة واستقلال الدول العربية في الخليج وغير الخليج، خاصة أن سياسة العالم المفتوح والتجارة الحرة وتدفق الاستثمار الإسرائيلي سوف ترافقه سياسات إدارية وتأثيرات على الداخل المحلي، لن تستطيع دول التطبيع الصغيرة لجمها أو وضعها تحت السيطرة.

لقد رأينا مذ الوهلة الأولى هرولة في التطبيع ليصل إلى إدخال الدجل الصهيوني الأمريكي بالمزاعم النكراء عن الدين الإبراهيمي أو ما شابه ذلك، كجزء من تفتيت العقيدة ومحو العروبة وهو أمر تنبهت له العربية السعودية، وظلت لا تتعاطى مغمضة العينين معه، أوكما يراد لها أن تفعل، وإنما بعقلية تعي المخططات الصهيونية والأمريكية، ومترافقًا ذلك بالتغيرات التاريخية التي تشهدها المملكة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، والتعاطي إيجابيًا مع القوى العالمية الصاعدة الصين وروسيا والهند دون أن تحفل بالذعر الذي أصاب ساسة أمريكا.

يبقى أن مصر إلى جانب المملكة وبلدان الخليج الأخرى، وتنسيق خطوات العمل المشترك بينهم سيكون كافيًا لردع المؤامرات في عالم متغير يضمن مساحة أوسع، لمواجهة رياح التحديات التي تهب على منطقتنا.

وأن تدعيم مصر لتبقى دائمًا قوية هو تدعيم لجبهاتنا الداخلية كعرب، باعتبارها رمانة الميزان في الوطن العربي.

وإذا كانت القضية العربية العادلة، قضية شعب فلسطين قد مرت بفترة من النسيان أوالتراخي والركون العربي، وصدق البعض إن إسرائيل ستدخل بيوتنا كأبناء عمومة فهذا محض هراء. فإسرائيل صنيعة استعمارية توسعية هدفها الاحتلال والتوسع أينما وصلت أقدامها على الرقعة العربية، وإن الصراع معها هو صراع وجود لا صراع حدود، و أن التاريخ يؤكد هذه الفرضية وتدعم ذلك طوائف من اليهود أنفسهم، يرفعون أصواتهم في كل مناسبة ألا دولة لإسرائيل تاريخيًا، وكما تتحدث عن ذلك التوراة وأن إقامة دولة إسرائيلية هو كفر بحد ذاته كما تقول توراتهم.

و قد حدد القرآن الكريم (الأرض) كلها لشتات بني إسرائيل، قبل أن يلتفوا لفيفًا من كل الأصقاع في أرض فلسطين على حساب أهل الأرض الشرعيين الفلسطينين، لتكون النهاية الحتمية باستئصال شرهم فيها، قال تعالى: ((و قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا)) الإسراء 104.

لقد هزمت أمريكا في غير مكان من العالم رغم قوتها العسكرية المهولة، هزمت في فيتنام وأفغانستان وخرجت منهما خروجًا ذليلًا، كما هزمت في العراق، ولذلك لا يكون التعويل على القوة العسكرية وحدها لتقرير مصائر الأمم والشعوب.

سوف نرى الآلة الدعائية الغربية التي تسير خلف مزاعم إسرائيل منذ سبعين عامًا تتغير رويدًا رويدًا بفضل الأجواء المفتوحة لشبكة التواصل الإعلامي، التي نقلت صور الأطفال في غزة وهم أهداف للطيران الحربي الإسرائيلي ولن تظل أسطورة إسرائيل المتفوقة إلى الأبد، وقد أصابها الذعر والخوف من المقاومين الفلسطينيين يوم 7 أكتوبر، ردًا على القتل الذي لم ينقطع يومًا في فلسطين، واقتحام البيوت وإحراق الأشجار وتدنيس الأقصى الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعراجه إلى السموات العلى، وحسبنا أن نتيقن أن الله لا يرضى بالظلم، وأنه قد فند شكل وطبيعة اليهود ونهايتهم الحتمية بقوله تعالى: ((و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب، لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلون علوًا كبيرًا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسيئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة و ليتبروا ما علو تتبيرًا)) الإسراء 4-7.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى