للمدن في حياة الإنسان ونفسه وذاكرته مكانة عزيزة، ومساحة كبيرة مملوءة بالمشاهدات والخيالات، ومخلوطة بالصور والأصوات، وحتى الروائح والنسمات المنسابة برقة الصباح وعذوبة الأماسي التي لا تُنسى مهما طال بالمرئ الزمان، وضرب في فجاج الحياة وشعاب الأيام والسنين، فالمدن بهذا المفهوم التأملي العجيب ليست ترابًا وأحجارًا ولا أبوابًا وأسوارًا، بل هي قطعٌ من النفس نابضة بالاشتياق والحنين الذي لا يتوقف حتى يبلغ العمر غايته وآخر منتهاه. ومن هنا يعقد الإنسان علاقة وطيدة بالمدن قوامها الحب والوفاء، سواء تلك التي ينتمي إليها أو يقيم فيها، أو تلك التي يزورها أو حتى يمر بها، فتصبح جزءًا من سِفر ذكرياته ومحطة في أسفار حياته، وبابًا مفضيًا إلى فضاءات رحيبة من تأملاته الزمكانية حتى وهو بعيد عنها، ومن فلسفة وجوده، فينشأ بينه وبين المدن التي تبقي أثرها في نفسه ووعيه نوع من المشاركة الوجدانية تتجلى بصور متعددة في أوقات الأفراح والأتراح.
بأردية من دموع وألم، فنجد مثلًا لدى الشعراء العرب نتاجًا شعريًا هائلًا تراكم عبر العصور، يمكن تصنيفه فيما يطلق عليه (رثاء المدن) أفرغوا فيه ما اغتلى من مشاعرهم وما فاض من غصصهم، معبرين عن وفائهم لتلك المدن التي أحبوها، وما عادت كما عرفوها بعد ما أصابها من نكبات ومحن.
وإذا تجاوزنا صورة الشاعر الجاهلي وهو واقف على الأطلال يبكي بقايا الديار وما أصابها من خراب ودمار، لرأينا صورًا متعددة من أزمنة لاحقة يحفل بها تاريخ الأدب العربي، وخاصة لشعراء يبكون فيها مدنًا تلاشت واندثرت، وممالك قُيضت أركانها وانتهت، وعصور كانت مزدهرة تبددت، فانطفأت نجومها بعد إبراق وأظلمت نهاراتها من بعد إشراق، والأمثلة على ذلك كثيرة يزخر بها كل عصر شهد نكبات مدن بأسرها، ويكفي أن نستمع إلى ابن الرومي وهو يرثي مدينة البصرة بعد اجتياحها فيما يُعرف بثورة الزنج، بقصيدة من أبلغ ما قيل في الرثاء الإنساني، مصورًا ما حلَّ بها من أهوال في ميميته الفذة ذارفًا الدموع وقد حرمته نكبتها المنام، يقول:
من تلكم الهناتِ العظامِ؟
لهف نفسي عليكِ أيتها البصرةُ
لهفًا كمثلِ لفحِ الضرامِ
ومن أشهر قصائد رثاء المدن قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس والتي مطلعها:
فلا يغرُّ بطيب العيش إنسانُ
ويقول فيها :
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلادِ فما
عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ
وها هو ابن خفاجة يبكي مدينة بلنسية حين دخلها الصليبيون وعاثوا فيها خرابًا ودمارًا (ومحت محاسنَها البلى والنار)، قال يرثيها:
وتمخضَّت بخرابها الأقدارُ
كتبَت يدُ الحدثان في عرصاتها
لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ
ثم ها هو الشاعر الموريتاني سيدي ولد الأمجاد تهزه هزة الزلزال العنيف الذي ضربت المغرب مؤخرًا، فيقول قصيدة عصماء من أعظم ما قيل في شعر التآزر والتضامن والحسرة على المدن في العصر الحديث، ومنها :
كلُّ عسر يزولُ بعد اصطبارِ
ما دهاكم قد زلزلَ الروحَ فينا
فالأسى مطبقٌ بكل الديارِ
ومع أنه ليس بالشعر وحده يعبَّر عن مصائب المدن، لكن بمثل هذه المشاركات الوجدانية المنفطرة حزنًا على ضياعها واندثارها، المفعمة بالحسرات والدموع على خرابها ودمارها، تخلَّدُ المدن المنكوبة في التاريخ، وتبقى على مر الأزمان حيةً وشاهدةً على حياة فنيت ومجد كان، رغم ضربات القدر وتهدم البنيان.