باقٍ في غزة

> لا ينتظر العربي شيئًا من حكامه سوى الكلام. والحاكم الجيّد في نظره الآن هو الصامت الذي لا يزعج شعبه بالتنديد والإدانات والمناشدات المخجلة.. تحديدًا من جيل الذين تخرجوا من المدارس بدرجة أولياء العهد. لهذا يتمنى العربي أن يعود إلى بيئة الصراع الكلاسيكي والوجوه القديمة ويحاول فك طلاسم الوقائع الغريبة في اختفاء "سعيد أبي النحس، المتشائل"، أو يستمع مرة أخرى بتوقيت الانتفاضة الاولى الى محمود درويش وهو يكتب: "أيها المارون بين الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرفوا"… أو حتى يرى أولئك العرب قبل أن ينهار بعض الكبار منهم ويضعف البعض الآخر، مخلفين وراءهم حفنة من دول مفككة الروابط تعيش فيما بينها حالة حرب باردة، ليس على سبيل التنافس البناء ولكن على طريقة مكايدات الضرائر في مخدع "البيت الأبيض".

العرب في نظر الغرب حضارة ليست صديقة وتشكل تهديدًا غير مباشر له. أما "إسرائيل" فإنها كيان غربي - شرق أوسطي أودع الغرب بداخله التاريخ والمعتقدات والمصالح و"العرق السامي"، حتى تحول إلى قبلة مقدسة يحميها بكل قوة وتتحول لأجلها كل منظومة المبادئ والمفاهيم الحقوقية، التي يتبناها إلى مجرد أفكار يمكن مراجعتها أو تجاوزها. بل إن الولايات المتحدة تعتبر إسرائيل جزءًا حيويًا من سيادتها الوطنية الداخلية، وكأن مبدأ حمايتها مندرج في نَص القسم الرئاسي أو في نشيد الراية الموشحة بالنجوم، وتفوق في مقتضيات الحرص عليها أي ولاية أمريكية داخلية.
  • فما هم الشركاء العرب إذن؟
لا تفكر كثيرًا أيها القارئ الحزين ومن حقك أن تسأل: ما وزن أغنى دولة في المنطقة حين تتحدث إدارتها عن تشييد مدن أسطورية وتحويل الصحراء إلى أرض الأحلام بينما لا تملك ما يصد عنها طائرة مسيرة قيمتها ملاليم؟ ليس هذا فحسب بل أن تأثيرها في هذه الأحداث الدموية الجارية يساوي صفرًا كبيرًا! هذا حال الكبار أما العرب في الدول الصغيرة فلا تسأل، لأن البعض منهم في السلم الوظيفي يحمل درجة "وسيط"، ويحصد من دول الغرب كل يوم ألف "لايك" مما تعد.

هل يمكن لأوطان العرب أن تعيش بسلام حين تتأكد بأن "إسرائيل" تمتلك القدرة على محو بلد بأكمله بضربة واحدة من السلاح النووي؟ أو أن بإمكانها أن ترتكب مجازر يومية بحق شعب تحت الاحتلال، وهي على درجة كبيرة من الاطمئنان بأن العالم لا يجرؤ أن يوقفها؟

هل ينام الحكام على حقيقة أن رموز الصهيونية الدينية المتطرفة أصبحوا جزءًا أساسيًا من منظومة الحكم في دولة الاحتلال، ويتنامى حضورهم ليضع أمام "إسرائيل" فرص ممكنة لأن تتحول رسميًا إلى كيان أكثر فاشية، ويشكل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا للمحيط العربي وليس افتراضيًا؟

الجواب: نعم ينامون ملء جفونهم وإلا كيف ذهب البعض إلى اختراع مشروع في سياق حرب الممرات الاستراتيجية، لتمكين هذا الكيان من أن يصبح مفتاحًا اقتصاديًا إقليميًا ودوليًا، وتعزيز مكانته الجيوبوليتيكية في المنطقة، ويربط بين عدوين يحصدان بدرجة رئيسة ثمرات الجغرافيا العربية، بينما يقفان صفًا واحدًا ضد حضارة أهل الأرض وأمنهم القومي.

هل أنت منفعل عزيزي القارئ؟ بالتأكيد نعم، والانفعال تراث عروبي ليس منزوع الشهامة وليس بدعة! أو أقول لك شيئًا آخر.. دعنا نوزع المهام على نحو آخر: على الحكام التنديد وعلى الشعوب أن تحزن، وبذلك يصبح العرب أمة من المنددين الحزينين أو ربما من "العقلاء النادمين"، إذا تكاثر حولهم محللون راشدون يعددون مساوئ المقاومة والتوقيت الخاطئ، وسيقولون بأن السلام مَرَّ بهدوء من أمامنا على عربة تجرها جياد بيضاء، و لولا أننا أمة لا تجيد اقتناص الفرص التي منحنا إياها أعتى خصم في التاريخ، لكنا الآن شعب الله المختار بالوكالة. عجبًا لهؤلاء!

نعود إلى "سعيد أبي النحس" في بداية المقال ونجد رغم كل ما تقدم من لغة "التشاؤل" بأن العبارة المنحوتة على قبر كاتب الرواية ما تزال كما هي: "باقٍ في حيفا"، ولم يستطع دفنها الصهاينة تحت رمال شاطئ المتوسط. كما أن طوفان الدم الغزاوي يعلو داخل حدود غزة، ليؤكد بأن برتقالة غسان كنفاني لا تنبت خارجها وأن الشعب باق فيها إلى الأبد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى