الاقتصاد السياسي للبحر الأحمر

> إبراهيم نوار:

>
​الاقتصاد السياسي هو حاضنة التفاعل بين الحقائق الجيوقتصادية والحقائق الجيوسياسية، أو دراسة كيفية تأثير السياسة في الاقتصاد وتأثير الاقتصاد على السياسة. ونظرا لأن البحر الأحمر هو بحيرة جيوسياسية وجيوقتصادية عربية تاريخيا، فإن ما نشهده على جانبيه وعلى سطح مياهه من تفاعلات عسكرية وسياسية واقتصادية وتداعياتها، من المتوقع أن ينتج معطيات تؤدي إلى تغيير شكل ومسارات العلاقات الإقليمية في المرحلة التالية لحرب غزة، التي كانت بكل المقاييس محركا لولادة قوة إقليمية جديدة هي اليمن، وحافزا للبحث عن مسارات جديدة للتعاون الإقليمي أو تنشيط مسارات خاملة، مثل البحث عن طرق جديدة للتجارة ومناطق جديدة للتنمية المشتركة.

لكن الأهم من ذلك كله، هو أن الدول العربية قد اكتشفت أيضا أن لديها أوراقا للضغط من أجل حماية مصالحها أكثر مما تستخدم بالفعل، وأن لديها من المصالح المشتركة أكثر مما يتم تفعيله، وأن العالم ليس كما يعتقد البعض ما يزال خاضعا لهيمنة القوة الأمريكية، وأن منطقة الشرق الأوسط ليست كما تعتقد إسرائيل ساحة مفتوحة لتغليب مصالحها على حقوق الآخرين. وفي هذا السياق تقدم دراسة الاقتصاد السياسي للبحر الأحمر الكثير من الدروس والعبر.
  • الأهمية الملاحية العالمية
يمثل البحر الأحمر واحدا من أهم طرق الملاحة البحرية في العالم. وطبقا لبيانات الحكومة الأمريكية فإن ما يقرب من 15 في المئة من حجم التجارة العالمية المنقولة بحرًا يمر عبر البحر الأحمر، بما في ذلك 8 في المئة من تجارة الحبوب العالمية، و12 في المئة من تجارة النفط المنقولة بحرًا، و8 في المئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال في العالم.

وطبقا لبيانات صادرة عن بيت الوساطة البحرية «كلاركسونز» عن الفتىة منذ بداية عام 2023 حتى منتصف الشهر الماضي فإن أكثر من 24 ألف سفينة عبرت البحر الأحمر، تحمل حوالي 30 في المئة من التجارة المنقولة بحرا بالحاويات بين الشرق والغرب. ويمر من قناة السويس ما يقرب من 70 سفينة يوميا مقابل 32 سفينة تعبر قناة بنما، بسبب الجفاف الذي تعاني منه، والمتوقع ان يستمر هذا العام. ويعتبر مضيق ملقا أهم ممرات التجارة العالمية النفطية وغير النفطية، حيث يمر عبره ما يصل إلى 200 سفينة يوميا، يتجه نصفها تقريبا أو يأتي عبر البحر الأحمر.

ويمثل الموقع الفريد للبحر الأحمر جيوسياسيا واقتصاديا كبحيرة عربية أصلا استثماريا حيويا ثابتا من الضروري توظيفه سياسيا على أحسن وجه ممكن.

ونظرا لأن المسافة بين الشرق والغرب عن طريق البحر الأحمر تقل بما يتراوح بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع، فإن شركات النقل البحري العالمية تفضل قناة السويس والبحر الأحمر على طريق رأس الرجاء الصالح، حيث أنها تحقق من خلال القناة والبحر الأحمر وفرا في تكلفة الوقود يصل إلى مليون دولار. ونظرا لأن البحر الأحمر يطل على غرب آسيا وشرق أفريقيا، كما يربط بين شمال العالم وجنوبه، فإنه يتمتع بأهمية اقتصادية وسياسية متعاظمة بالنسبة للبلدان العربية. على سبيل المثال تستخدم دولة قطر قناة السويس في نقل ما يصل إلى 15 في المئة من صادراتها من الغاز المسال، وتستحوذ ناقلات الغاز القطري على ما يقرب من 30 في المئة من حمولات الغاز العابرة لقناة السويس من الجنوب إلى الشمال. وفي حال تحول طريق صادرات الغاز المسال القطري عن البحر الأحمر وقناة السويس فإن زمن الرحلة يزيد بنسبة 80 في المئة إلى 27 يوما بدلا من 15 يوما، وهو ما يمكن أن يضاعف تكلفة الوقود، إلى جانب الزيادة المتوقعة في تكلفة التأمين، وتكلفة التشغيل.

كما أن أسعار النفط والغاز يمكن أن تشهد ارتفاعات حادة في حال نشوب حرب أو حدوث استفزازات عسكرية تهدد أمن الملاحة في باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر. وقد يؤدي ذلك إلى عودة أوروبا الغربية للاعتماد على المزيد من الغاز الروسي، ضاربة عرض الحائط بإجراءات المقاطعة.

وتقدر مؤسسة الاستشارات الاقتصادية والمالية «ستاندرد آند بورز» أن تحول الملاحة عن البحر الأحمر إلى طريق رأس الرجاء الصالح، يؤدي إلى زيادة الطلب على وقود السفن بنسبة 5 في المئة، وهذا من شأنه أن يرفع أسعار الوقود، وتكلفة الشحن التجاري، إضافة إلى ارتفاع رسوم التأمين على السفن والحمولات التجارية. وقد أوضح أحد الخبراء أن السفن التي عبرت قناة السويس من الشمال إلى الجنوب، ثم قررت الرجوع في منتصف الطريق عبر القناة مرة أخرى إلى البحر المتوسط تتكلف رسوما إضافية قد تصل إلى نصف مليون دولار.

هذا كله يعني أن للدول العربية والعالم مصالح مشتركة ومتوازنة في ضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر، وأن ضمان الأمن هو مسؤولية عربية بالأساس، وليس مسؤولية خارجية، خصوصا إذا تم توظيفها لتبرير حرمان شعب عربي من حقه الأساسي في إقامة دولته، التي يعيش فيها حرا آمنا.
  • حرب غزة والتضامن مع الفلسطينيين
اكتشفت قوة سياسية وعسكرية صغيرة في جنوب البحر الأحمر هي حكومة حركة أنصار الله، «الحوثيين» في اليمن، إمكان التضامن مع الشعب الفلسطيني في محنته من خلال فرض قيود على مرور السفن والبضائع من وإلى إسرائيل، وذلك كوسيلة للضغط من أجل أن تتوقف إسرائيل عن قتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم وحرمانهم من الماء والغذاء والوقود والدواء.

وأعلنت حكومة صنعاء للعالم كله حظر مرور السفن الإسرائيلية وكذلك مرور السفن من وإلى إسرائيل عبر باب المندب، حتى توقف حكومة تل أبيب حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة، وتتوقف عن تقييد دخول المساعدات الإنسانية إليهم. هذا الحظر يعني إجبار تلك السفن على التحول إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما يزيد زمن الرحلة بنسبة 40 في المئة، ويرفع تكلفتها بحوالي مليون دولار في المتوسط. ولا يستهدف القرار اليمني الملاحة الدولية بأي شكل من الأشكال.

ويقع الأثر الرئيسي لقرار الحظر على تجارة إسرائيل البحرية مع دول الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا. وتتمتع إسرائيل بعلاقات تجارية قوية مع هذه الدول، تتنامى بمعدلات سريعة. وتمثل تجارتها معها حوالي 25 في المئة من قيمة تجارتها الخارجية، وما يعادل 30 في المئة من وارداتها. وكان أحد نتائج الحظر اليمني أن ميناء إيلات خسر كل أنشطته تقريبا، حسب قول البروفيسور شاؤول شيروف، وهو أدميرال بحري متقاعد، ورئيس مركز بحوث السياسة البحرية في جامعة حيفا، وتحولت إيلات عمليا إلى مدينة أشباح. ميناء إيلات أقيم على أرض قرية أم الرشراش المصرية المحتلة منذ حرب السويس عام 1956 حيث رفض بن غوريون إخلاءها عام 1957 في إطار إجلاء القوات الإسرائيلية عن سيناء بعد حرب السويس. وتتطلع إسرائيل لتحويل الميناء إلى منطقة تنموية متكاملة، ضمن خططها لاستثمار اتفاقيات التطبيع الجديدة مع الدول العربية الخليجية على وجه الخصوص.

وكانت تقارير إعلامية قد تناولت مؤخرا مشروع مسار تجاري جديد بين دبي وإيلات، قامت بتصميمه وتشرف على تنفيذه شركة «تراكنيت» الإسرائيلية التي تتخذ من إيلات مقرا لها، وهو مشروع يهدف إلى إنقاذ الميناء الذي خنقه الحوثيون.
  • أمريكا تروج لأزمة ملاحة عالمية
في إطار عملية التسويق السياسي لإنشاء قوة بحرية دولية بقيادة الولايات المتحدة تحت مبرر «ضمان أمن الملاحة التجارية في البحر الأحمر» وبسبب تردد دول كثيرة في الانضمام لهذه القوة التي اقترحتها واشنطن في 10 ديسمبر، فإن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عقد مؤتمرا عبر الفيديو مع نظراته في 43 دولة (دول حلف الاطلنطي والاتحاد الأوروبي) في 19 من الشهر نفسه لحث تلك الدول على الانضمام للقوة البحرية الدولية المقترحة. وخاطب أوستن نظراءه قائلا إن الهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر «أدت فعليا للتأثير سلبا على الاقتصاد العالمي، وأنها سوف تظل تمثل تهديدا للسفن التجارية إذا لم يتحرك المجتمع الدولي بالوقوف معا ضدها».

لويد أوستن هنا يطالب العالم بأن يرسل سفنه تحت قيادة الولايات المتحدة لحماية مرور السفن الإسرائيلية والمتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، بينما إسرائيل تمنع مرور الإمدادات الإنسانية (الماء والغذاء والوقود والدواء) عن الفلسطينيين الصامدين في غزة، الذين يعانون يوميا تحت نيران القصف والتدمير الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

محاولة تصوير قيام حكومة أنصار الله في اليمن باعتراض مرور السفن الإسرائيلية والحمولات البحرية المتجهة إلى إسرائيل، على أنها تهديد للملاحة العالمية هي محاولة ماكرة وكاذبة، تهدف إلى توحيد مصلحة العالم مع مصلحة إسرائيل المعتدية، بدلا من الانتصار لمبدأ حق الإنسان في الحياة الآمنة في غزة والأرض الفلسطينية المحتلة. الحل البسيط لما يتم ترويجه على أنه تهديد لحركة التجارة العالمية هو أن تتخذ السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية مسارات أخرى بعيدا عن البحر الأحمر.

وإذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية فعلا تنطلق من قاعدة احترام القيم وحقوق الإنسان، فإنها يجب أن تدعو إلى مقاطعة السفن الإسرائيلية، وأن تحث شركات الملاحة العالمية على عدم نقل حمولات تجارية إلى إسرائيل أو منها، ومقاطعة السفن الإسرائيلية في موانئ «العالم الحر».

أما السماح بقتل وجرح مئات الفلسطينيين يوميا وتجويع المدنيين الأبرياء، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ في الأرض المحتلة حتى الموت، بل وإمداد إسرائيل بمئات الأطنان من الأسلحة والذخائر بواسطة السفن الأمريكية لمساعدتها على الاستمرار في قتل الفلسطينيبن، فإنه لا يعكس إلا تحالفا مكشوفا مع إسرائيل.

وإذا كانت إسرائيل قد أعطت لنفسها الحق في قطع شرايين الحياة عن غزة، وتساعدها الولايات المتحدة على ذاك وتحميها، فمن حق كل أنصار الحق والحرية وحقوق الإنسان في العالم اتخاذ إجراءات فعالة ضد إسرائيل لإجبارها على احترام القانون الدولي والقيم الإنسانية، وألا تكتفي بإصدار بيانات الإدانة الخاوية عديمة التأثير، وألا تتوقف عن إدانة الموقف الأمريكي.

ومن المعروف أن عددا مهما من دول الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي مثل إسبانيا وفرنسا لم تعلن حتى الآن مشاركتها في القوة الدولية المقترحة.

بل إن إسبانيا اشترطت أولا أن توافق دول الاتحاد الأوروبي ودول حلف الأطلنطي على قرار في هذا الخصوص قبل أن تعلن الموافقة. وقالت فرنسا أنها تحتفظ لنفسها بقوة عسكرية لتأمين الملاحة وأن الفكرة المقترحة من الولايات المتحدة ربما تكون جيدة في مجال تبادل المعلومات فقط. كذلك فإن الدول العربية لم تعلن المشاركة في القوة، باستثناء البحرين التي يوجد فيها مقر الأسطول الخامس الأمريكي. ولم تظهر عواصم مهمة مثل الرياض والقاهرة والدوحة وأبو ظبي إشارات إيجابية بشأن القوة البحرية الدولية بقيادة الولايات المتحدة.
  • مسارات بديلة للتجارة
أدت تطورات حرب غزة والحظر البحري على الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، الذي فرضته حكومة أنصار الله اليمنية إلى تنشيط عملية البحث عن مسارات بديلة، غير بحرية، تربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. وليس هناك ضرر من ذلك في إطار المنافسة وتنويع البدائل للمساعدة على خلق فرص اقتصادية جديدة.

كما أن البحث عن مسارات بديلة أو متنوعة ليس جديدا. ففي قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي تم الإعلان عن ممر الشمال الذي يريط الهند بأوروبا مرورا بالخليج من دبي، ثم عن طريق إسرائيل، وهو مشروع تم تفصيله وإعداد خطته في إسرائيل بواسطة وزير الخارجية الجديد يسرائيل كاتس، الذي تولى لفترة طويلة منصب وزير الطاقة والبنية الأساسية في إسرائيل، ومن المتوقع ان يلعب دورا مهما في حال تطبيع للعلاقات بين السعودية وإسرائيل.

كما أن هناك أيضا طريق الشمال الجنوب الذي يريط بين روسيا وإيران. ويتم أيضا تطوير طريق جديد «الجسر العربي» بواسطة ثلاث دول عربية هي العراق والأردن ومصر للربط التجاري بين غرب آسيا وشرق البحر المتوسط عن طريق موانئ العقبة في الأردن ونويبع في مصر، ومن هناك برا إلى الإسكندرية.

ومن أهم ما يميز المسارات الجديدة التي تتبناها الدول العربية هو جعل هذه المسارات بمثابة مناطق تنمية جديدة لجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة الترابط بين الدول العربية وسلاسل الإمدادات العالمية، مثل إنشاء منطقة قناة السويس الاقتصادية والمنطقة الاقتصادية الحرة بميناء العقبة في الأردن، إضافة إلى المشروعات الضخمة المتعددة الأبعاد مثل إقليم «نيوم» في السعودية، والموانئ المنتشرة على سواحل البحر الأحمر الشرقية والغربية، بما تخلقه من فرص لجذب الاستثمارات وتوسيع نطاق المصالح المتبادلة.

ولا شك أن إسرائيل تحاول أن تكون لها اليد العليا في المسارات التجارية المنافسة للبحر الأحمر، وأن تضمن التفوق الاقتصادي الساحق الذي يوازي تفوقها العسكري على الجيوش الحكومية. وفي مواجهة ذلك يجب أن تكون هناك ترتيبات عربية لحماية المصالح وضمان استخدام التعاون الإقليمي في البحر الأحمر ورقة فعالة من أوراق الضغط لحصول الشعب الفلسطيني على حقه في إقامة دولته المستقلة التي يعيش فيها الفلسطيني آمنا.

كما أن هذه الترتيبات ضرورية أيضا لتجنب مخاطر استخدام ثغرات جيوستراتيجية في مناطق الصراعات في القرن الأفريقي وغرب البحر الأحمر، ومساعدة الدول العربية والصديقة على تسوية نزاعاتها بالطرق السلمية، وتعظيم فرص الاستفادة من الموارد والفرص الاقتصادية المشتركة.
القدس العربي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى