سعيد عولقي.. والمسرح في اليمن

> وأنا أتجول في فضاء الشبكة العنكبوتية مديد الأمداء الممتد بلا حدود ولا انتهاء، وقعت عيني بالصدفة ومن غير موعد ولا انتظار، على صورة أثارت في نفسي مكامن التذكار، وكأنها هبطت فجأة من أعلى نقطة في المدار، صورة مبنًى أذكر أني زرته بضع مرات، قبل عشرين وعشر من السنوات، هناك حيث كانت لنا مع بعض الأصدقاء ذكريات.. وما أجملها من ذكريات! المبنى هو أكاديمية الدولة البيلاروسية للفنون، فقد أعادتني تلك الصورة إلى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، أيام دراستي الجامعية في كلية الصحافة والإعلام بجامعة روسيا البيضاء، وكان لي أصدقاء ينحدرون من مدينة عدن جنوب اليمن يدرسون في قسم المسرح بتلك الأكاديمية، وكنت بين الفينة والأخرى أزورهم في سكنهم الطلابي.

اليوم وبعدما فرقنا الزمان، وصار لكل منا في الحياة مكان، لم أعد أعرف لهم أي عنوان.. لكنني أعرف أن مدينة عدن عرفت المسرح منذ أن بدأ القرن العشرون يفتح عينيه على الوجود، وتحديدًا في عام 1904م حين توقفت في المدينة فرقة من الممثلين الهنود، وقدمت عرضًا مسرحيًا أثناء رحلة عودتها من أفريقيا إلى الهند، وكانت قد وعدت أبناء الجالية الهندية المقيمة في عدن، بإقامة ذلك العرض المسرحي في المدينة، وشهدت عدن عام 1908م عرضين مسرحيين لفرقة هندية أخرى، وفي العام 1910م قدم أول فريق تمثيل مدرسي من أبناء عدن العرب مسرحية عنوانها (يوليوس قيصر) على مسرح صغير أقيم في ملعب التنس الأرضي، وقد اشترك في تلك المسرحية - كما تذكر صحيفة (الأيام) العدنية ذات الرواج الواسع، في عددها الصادر بتاريخ 8 ديسمبر 2014 - أحمد محمد آل يعقوب ومحمد المكاوي، تقول الصحيفة: " وكانت هذه أول مسرحية يمثلها ويشاهدها العدنيون مترجمة إلى العربية". ويشير الناقد المسرحي أحمد سعيد الريدي في كتابه (قراءة نقدية معاصرة لتاريخ المسرح اليمني) أن حمود بن حسن الهاشمي المعروف باسم (مستر حمود 1867م - 1939م) هو أول عربي يقوم بترجمة مسرحية (يوليوس قيصر) من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية.

سعيد عولقي
سعيد عولقي

وتذكر المصادر أن عدن شهدت خلال الفترة الممتدة بين الأعوام 1926 و 1940 حركة مسرحية نشطة، وتأسست فيها العديد من الفرق المسرحية، منها فرقة نادي الإصلاح العربي عام 1929م، ومن بين المسرحيات التي عرضت في تلك الفترة مسرحية (همام أو في بلاد الأحقاف) ومسرحية (شهداء الغرام).

وبمرور الوقت وانطواء السنوات عاش خلالها المسرح في اليمن وعدن خاصة تحولات كثيرة، ومر بمحطات عدة ما بين إنجازات واضحة وإخفاقات فادحة، كانت تبذل خلالها محاولات وجهود لإعادة الروح إليه، وتصدى لهذه المهمة الفنية والإبداعية النبيلة فنانون أخلصوا للمسرح، وتفانوا في أداء وإيصال رسالته السامية، فكان من بين أولئك الذين قدَّموا أعمالًا مسرحية شكلت علامات في حياة المجتمع العدني يومها كتَّاب ومؤلفون ومخرجون وممثلون وفنيون موهوبون كثر امتلكوا مواهب حقيقية في مجالات الفن المسرحي، ناهيك عن توفر المسارح وخشبات العرض في المدينة بأعداد معقولة كانت كافية يومها لاستيعاب واستضافة العروض، واستمرار حركة مسرحية على مدار العام وفي الأعياد والمناسبات المختلفة .

من الأسماء المهمة البارزة والمؤثرة في تاريخ المسرح في اليمن يبرز اسم الكاتب المسرحي المبدع والروائي الكبير سعيد عولقي (ولد في عدن عام 1946) أحد المؤسسين لعدد من المسارح، منها فرقة الجنوب للمسرح عام 1965، وفرقة المسرح الحديث عام 1969. أسهم في إصدار مجلة (الفنون) عام 1980، وعمل في وزارة الثقافة والسياحة، فأسس وترأس قسم الأبحاث والدراسات المسرحية، وفي عام 1987 انتخب رئيسًا لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين (فرع عدن)، ومن مؤلفاته كتاب (سبعون عامًا من المسرح في اليمن)، تولى سعيد عولقي مسؤولية الإدارة العامة للثقافة بعد قيام الوحدة اليمنية عام 1990 كما شغل منصب مدير عام المؤسسة العامة للمسرح والسينما.

سعيد عولقي كاتب صحفي فذ وصاحب قلم ساخر يكتب المقالة بأسلوب متفرد لا يجاريه أحد في ميدانه، كتب بقلمه المدهش العديد من الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية المهمة الباقية في الذاكرة، مثل (الأرض، القوي والأقوى، مشروع زواج، المهزلة الإدارية) وغيرها الكثير من الأعمال التي أثرى بها الحياة الثقافية والفكرية في بلاده، ونقل وصوَّر من خلالها نبض وحياة الناس والمجتمع بكل دقة ومهارة، عاكسًا قضاياه وهمومه وتطلعاته إلى حياة كريمة وغد أفضل، ولعل أبرز أعماله المسرحية على الإطلاق مسرحية ( التركة) عام 1982 التي كتبها عولقي بحسه الجمالي الرفيع، ونظراته ورؤاه التعبيرية المتوقدة، وقدراته الفنية العالية وملكته الإبداعية غير العادية، فجاءت ( التركة) باكتمال عناصر عرضها المسرحي من تمثيل وإخراج وسينوجرافيا، علامة من العلامات المضيئة في تاريخ المسرح في اليمن والتي اشتهرت وقتها على نطاق واسع بعد عرضها على خشبات المسرح في عدن، وما زال الناس يتذكرونها إلى اليوم، والواقع أنها ستبقى في الذاكرة والضمير الجمعي لسنوات طوال ولعدة أجيال، فما يتركه مسرحيون بوزن وقامة سعيد عولقي لا يؤول إلى زوال .

عن مجلة الشارقة الثقافية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى