تحسبات عمانية لحالة طوارئ تفرضها الحرب الإقليمية الأولى

> د. هيثم الزبيدي:

>
​تتحسب سلطنة عمان لوضع أمني إقليمي منفلت عبر إعادة النظر في بنود قوانين حالة الطوارئ وكيفية إعلانها ومن المسؤول عن تنفيذها وآليات ذلك التنفيذ. فالمرسوم السلطاني الجديد (13 / 2024) يعيد النظر في الكثير من تفاصيل مرسوم سلطاني صدر عام 2008 ينظم إعلان حالة الطوارئ والجهات المختصة بالإشراف على الحالة الخاصة التي تنتج عنها.

عالج المرسوم/القانون الجديد الكثير من الثغرات المتروكة في القانون القديم، وأخذ في الاعتبار عوامل متجددة فرضتها تغيرات كثيرة، منها السياسي والتقني والعسكري.

قبل الرد على سؤال مثل “لماذا تغير سلطنة عمان قوانينها الخاصة بالتعامل مع حالة الطوارئ؟”، لا بد من طرح سؤال أولي: “كيف تنظر سلطنة عمان إلى نفسها في حلبة الصراعات الدائرة في المنطقة؟”.

من دون السعي لتضخيم ما يحدث في المنطقة، يمكن القول إننا نعيش الآن مرحلة “الحرب الإقليمية الأولى”، إن جاز التعبير وإذا جازت محاكاة مصطلح “الحرب العالمية الأولى”. 
المنطقة العربية هي جغرافيا حروب مستمرة بامتياز. إذا وضعنا حروب الاستقلال على جانب، فإن الحرب العربية – الإسرائيلية مستمرة منذ عام 1948. ومنذ عام 1980 تعيش المنطقة حروبا طويلة مع إيران.

وبعد غزو العراق للكويت عام 1990، تستمر الحرب الأميركية على أرض العراق بشكل أو بآخر، مرتيْن مع الجيش العراقي عام 1991 و2003، ومرة مع المقاومة العراقية انطلاقا من عام 2003، ومرة مع داعش ابتداء من سقوط الموصل عام 2016، وأخيرا هذه الأيام، وللمفارقة، مع فصائل الحشد الشعبي التي ما كانت لتولد لولا احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين.

الحروب الأهلية مستمرة، بتلويناتها المختلفة السياسية والقومية والطائفية، في لبنان وسوريا واليمن والسودان وليبيا. وفي حروب مثل حرب العراق أو سوريا أو اليمن، يمكن القول إنها حروب أهلية بامتدادات إقليمية.

حرب غزة غيرت الوضع. فثمة حرب تدمير ممنهج لقطاع غزة تمارسه آلة الحرب الإسرائيلية بأسلوب إجرامي ليس له مثيل. لكن غزة كانت أيضا الفتيل الذي أشعل حروبا ثانية بأطراف غير فلسطينية وغير إسرائيلية. حرب البحر الأحمر وخليج عدن تدور اليوم بين القوات الغربية والحوثيين المدعومين من إيران. حرب الساحة العراقية تدور بين فصائل عراقية والقوات الأميركية.

مناوشات الحدود اللبنانية – الإسرائيلية هي حرب مؤجلة بين إيران والغرب حتى وإن كان حزب الله والجيش الإسرائيلي واجهتين لها. إسرائيل تشن حربا على التواجد العسكري الإيراني في سوريا بمعطيات لا علاقة لها بحرب غزة بل قد سبقتها بسنوات. إيران، الهادئة نسبيا الآن، لا تتوقف عن التصريح بأن الخليج كله هدف مشروع لها إذا ما استُهدفت من قبل الغرب. تعدد الجبهات وانتشارها وتعدد الفرقاء فيها هو ما يجعل مسمى “الحرب الإقليمية الأولى” واردا.

أين تجد عمان نفسها في هذه الحرب الإقليمية؟ إلى الشمال الشرقي من السلطنة، هناك مضيق هرمز والخليج وخليج عمان. وإلى الجنوب الغربي هناك بقايا حرب اليمن وصدام متصاعد في بحر العرب وخليج عدن. بالتدبير والمناورة السياسية والدبلوماسية، تمكنت عمان من النأي بنفسها عن الحروب الساخنة في المنطقة. لكنها بالتأكيد جزء من الصراعات الباردة فيها، رغم كل الواجهة الهادئة التي تتعمد تقديمها لنفسها كبلد يبتعد عن الزج بنفسه في الصراعات.

من المؤكد أن السلطنة لا تريد أن تجد نفسها في مواجهة شباب عماني متحمس وغاضب من حرب غزة. هذا فيه جانب يفسر المسايرة الرسمية والدينية لحماس الشباب.

ولكنها تتذكر جيدا كيف عاد شباب سعوديون من أفغانستان لينقلبوا على الدولة السعودية التي سايرتهم ومولت قتالهم ضد السوفيات في أفغانستان.

الشباب العماني لم يذهب إلى القتال في غزة، لكن حرب غزة اليوم في كل بيت عماني بحكم الصور والمشاهد اليومية التي تنقلها الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي. بنود متعددة في أصل (75 / 2008) وتعديلات (13 / 2024) قانون حالة الطوارئ ترصد احتمالات التجمع واستخدام الاتصالات والشبكات لما يضر أمن البلاد وتمنح صلاحيات مطلقة لأجهزة الأمن في اتخاذ تدابير مواجهتها.

ثمة فرق بين عملية ارتدادية لحماس الشباب وتلك الاحتجاجات المطلبية التي شهدتها عمان عامي 2011 و2021، لكن في بلد مر بصراعات أهلية وصلت إلى حالة الحرب في ظفار والجبل الأخضر في السبعينات من القرن الماضي، لا ينبغي أن تترك الأمور بلا تحسب. هذا لا يعني أبدا أن لدى العمانيين موقفا من قيادة بلادهم، لكن من يستثمر في التحريض سيراهن على حسن النوايا لدى الجموع ويعيد توجيهها إلى غاياته.

من المؤكد أن الحافة الشمالية الشرقية للسلطنة (مسندم وصحار) تنعم بالهدوء على الرغم من موقعها القريب جدا من مضيق هرمز. هذا جزء من تفاهم طويل الأمد مع إيران. لكن إطلالة عمان الغربية، بحدودها الصحراوية الطويلة مع إقليم المهرة في اليمن وسواحلها على البحر العربي الممتد إلى خليج عدن، تجعلها قريبة جدا من بقايا الصراع اليمني الثلاثي؛ الصراع الأهلي بين مختلف الأطراف اليمنية والصراع بين قوات الحكومة اليمنية المدعومة من التحالف بقيادة السعودية والحوثيين المدعومين من إيران والمواجهة المتصاعدة بين القوات الغربية والحوثي. عمان تدرك الوضع الحرج لهذه المنطقة وتضع الكثير من الإمكانيات العسكرية والاستخبارية لضبطه.

ليس سرا عسكريا أن قوات التحالف قبل سنوات قليلة كانت على وشك التصادم مع قوى يمنية محسوبة على عمان في إقليم المهرة. إلى من سيؤول النفوذ في حضرموت، لا يزال من أسئلة حرب اليمن. وإلى حد اليوم لا يزال الحديث مستمرا عن عبور إمدادات إيرانية إلى الحوثيين عبر الحدود العمانية – اليمنية “المسامية” والطويلة.

التحسب العماني يضع هذه الاعتبارات في بنود قانون الطوارئ، لأن جميع الأطراف المعنية بالحرب الإقليمية غير معروف عنها احترام الحدود، بل تتجاوزها إذا دعت الضرورة إلى ذلك.

الجهد الدبلوماسي والاستخباري العماني أكثر من مرصود. الواجهة الرسمية الهادئة وقلة التصريحات لا تعنيان أن مسقط بعيدة عما يجري. وكان الحضور العماني فاعلا في حرب اليمن. وفود عمانية لشخصيات يتم إغفال ذكر أسمائها عمدا، تصل إلى صنعاء لتوصيل الرسائل إلى الحوثي ونقل رسائله إلى التحالف أو الغرب.

وتواجد شبه دائم لممثلين سياسيين وإعلاميين عن الحوثيين في مسقط. قد يبارك مفتي عمان الشيخ أحمد بن حمد الخليلي هجمات الحوثيين على الملاحة في مضيق باب المندب، نصرة لغزة. لكن مسقط في الوقت نفسه ترعى محادثات بين وفود أميركية وأخرى إيرانية للتوصل إلى إيقاف مثل هذه الهجمات، ولكي تضغط طهران على الحوثي لدفعه إلى عدم المبالغة في استهداف السفن في البحر الأحمر وخليج عدن، وعدم التوسع في استهداف القطع الحربية البحرية الغربية.

لم يترك المرسوم الجديد أي ثغرة من الثغرات السابقة، وعالج المستجدات؛ بدْءا من دور تقنيات الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي والمال، ومرورا بأثر المسيّرات التي يرى العمانيون ما يمكن أن تُحدثه من تغيير في موازين القوى، وصولا إلى التمييز بين ما يذهب إلى المحاكم العسكرية، أي المرتبط بالتآمر والإخلال بأمن الدولة، وبين الإحالات الجزائية، أي المرتبطة بالإخلال بحالة الطوارئ عن قصد أو من دون قصد.

التدقيق في مواد قانون حالة الطوارئ المحدث يشخص حجم الأهمية التي تمنحها البلاد لأمنها، وأنها بأجهزتها المختلفة، وخصوصا مجلس الأمن الوطني والمكتب السلطاني ومكتب القائد الأعلى للقوات المسلحة السلطانية، مستعدة لكل الاحتمالات وليست في وارد ترك شيء للصدفة. هذه التفاصيل مهمة، مثلما هي أهمية توقيت إصدار المرسوم.
العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى