حرب إسرائيل على غزة وما ترتب عنها من سقوط لقيم «العالم المتحضر»!

> لأولئك الذين يرجعون ما يحدث الآن من تدمير وتقتيل وتجويع وإبادة جماعية وتهجير قسري لما حدث في السابع من أكتوبر 2023، نقول لهم: فليعودوا إلى تصريح الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو جوتيريش، وهو شخصية غربية - عندما قال:" إن ما يحدث منذ 7 أكتوبر 2023، هو نتيجة لما يعاني منه الشعب الفلسطيني منذ 75 عاما". وهو يقصد إن ما حدث في 7 أكتوبر سببه إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، أو على الجزء الأكبر من أرض فلسطين. وهو بذلك يؤكد للعالم كله أن إسرائيل هي دولة احتلال بكل المقاييس. ولأن "العالم المتحضر" لم يعترف بهذه الحقيقة الساطعة، فإن ذلك قد جعل من دولة إسرائيل، دولة متنمرة وفوق القانون. وهو الذي منحها رخصة مفتوحة لفعل أي شيء و قت ما تشاء، وضد من تريد.

وجوهر المسألة تبدأ من فهمنا للكيفية التي تم بها تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين؟

وتجاوزا للمفاهيم والمرويات التاريخية الخاصة بقبيلة بني إسرائيل، التي جرى تزويرها من قبل المستشرقين الأوروبيين بهدف الوصول إلى التخلص من اليهود الأوروبيين على حساب مجتمعات أخرى، وقد رست أخيرا على أرض فلسطين. واتصالا بما سبق، جرى تصوير أن دولة إسرائيل القائمة حاليا على أرض فلسطين، باعتبارها:

*إما أنها وطن خاص باليهود، سلبت منهم، وقد تم استعادتها إليهم. مع أن اليهودية هي معتقد ديني، فكيف ارتضى الغرب المتحضر بوجود دولة دينية، وهم الذين شنوا صراعات ومعارك سالت فيها دماء كثيرة من أجل تخليص أوروبا من الدول الدينية، وسطوة الكنيسة على مجتمعاتهم.

*أو أن دولة إسرائيل هذه، ليست سوى كيان يخدم ويحمي المصالح السياسية والاقتصادية للغرب في منطقتنا.

والحقيقة أن إسرائيل لا هذه ولا تلك. وسوف تتضح لنا المسألة لاحقا. ومن أجل حل هذه المسألة، سيتطلب منا العودة إلى بعض المحطات الخاصة بالحربين العالميتين الأولى والثانية، وعلاقة الولايات المتحدة بهما.

فبالنسبة إلى الحرب العالمية الأولى(1914 - 1918)، فقد بدأت أوروبية من ناحية الأسباب وساحة المعارك والأهداف، ولكنها تحولت إلى عالمية بعد تمددها إلى خارج أوروبا، ومشاركة الكثير من بلدان العالم. كما أن أهدافها قد تحولت من أهداف محلية داخل أوروبا إلى أهداف عالمية باتجاه صراع الغرب على ثروات البلدان الأخرى.

وفيما يخص مشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب، فقد كانت في 6 إلريل 1917، أي بعد عامين ونصف من بدئها.

وبالنسبة إلى الحرب العالمية الثانية(1939 - 1945)، فقد بدأت هي الأخرى أوروبية ثم انتقلت إلى خارجها لتتحول إلى حرب عالمية، كما لم تكن أهدافها بعيدة عن أهداف سابقتها، بل كانت أشد وأوسع. أما عن مشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب، فقد كانت في ديسمبر 1941، أي بعد سنتين من بدء الحرب، أي بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر.

وفي الحربين العالميتين الأولى والثانية، يمكننا القول إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الرابحة عسكريا واقتصاديا. فالحربان كانتا خارج نطاقها الجغرافي. ونعني بذلك أنها لم تتعرض أراضيها للدمار كما هو الحال بالنسبة لبلدان أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. كما أن ترسانتها العسكرية لم تتعرض هي الأخرى للدمار كما هو الحال بالنسبة للدول الأوروبية والاتحاد السوفيتي. وبسبب بعد الولايات المتحدة من ساحات المعارك، فقد ظلت مصانعها العسكرية والمدنية تعمل بكامل طاقتها، بل وعملت على إمداد حلفائها الأوروبيين بكل احتياجاتهم العسكرية وغير العسكرية. أي أنها قد استفادت اقتصاديا مما تحصلت عليه من عائدات مالية مقابل مبيعاتها زمن الحرب وأثناء مرحلة التعمير.

وإذا تذكرنا مشروع مارشال Marshal Plan الذي وضعه الجنرال جورج مارشال، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأمريكية منذ يناير 1947، والذي تبرعت الولايات المتحدة بمبلغ قدره 17 مليار دولار خلال السنوات الأربع التي كانت الخطة فيها سارية المفعول، إذ اعتبرت هذه الأموال مساعدات اقتصادية وتقنية بهدف مساعدة الدول الأوروبية المنضمة إلى منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي في ذلك الوقت. وقد دفع الولايات المتحدة لاقتراح هذه الخطة عاملان أساسيان هما: الأول الخوف من سيطرة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية - التي شاركت بفعالية في مجريات الحرب الوطنية العظمى(الحرب العالمية الثانية) - على الحكومات الأوروبية. والعامل الآخر هو الخوف من إملاء الفراغ من قبل الاتحاد السوفيتي حينها، الذي خرج منتصرًا من تلك الحرب.

وفي كل الأحوال، فإن كل المعطيات تقول أن ما قدمته الولايات المتحدة من أجل تنفيذ خطة مارشال لم يصل إلى الرقم المعلن.

ومن المؤكد أن للحربين العالميتين نتائج عديدة ومتنوعة: سياسية وعسكرية واقتصادية وغيرها. ولكن ما يعنينا من كل تلك النتائج، هي تلك النتيجة التي أصابتنا في مقتل، ونعني بذلك النتائج ذات العلاقة بتأسيس إسرائيل على حساب الوطن والشعب الفلسطيني.

فالحرب العالمية الأولى أدت إلى إعلان "وعد بلفور" الذي تم الالتزام بموجبه ليهود أوروبا بإيجاد وطنا لهم، كحل عن المضايقات والمتابعات والاضطهادات التي تعرضوا لها في أوروبا، علما أنهم - أي اليهود - لم يتعرضوا لهكذا حالة في البلدان العربية التي عاشوا فيها منذ القدم.

كما أدت الحرب العالمية الثانية إلى سلب الوطن الفلسطيني من مالكيها الحقيقيين، ومنحها لليهود، وتشريد أهلها الأصليين، وذلك بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181) الصادر في 29 نوفمبر 1947، والذي قضى بتقسيم أرض فلسطين إلى ثلاثة كيانات: عربية 45 % ويهودية 55 %، على أن تكون القدس وبيت لحم تحت الوصاية الدولية.

وبغض النظر عن تفاصيل ما حدث بسبب هذا القرار، فإن النتيجة النهائية وذلك كما نشاهدها اليوم، هي وجود دولة إسرائيل المتنمرة على كل ما حولها في هذه المنطقة، ومدللة ومحمية من المجتمع الدولي. ومن جانب آخر شعب فلسطيني جزء منه مشرد في مختلف بقاع العالم، وجزئه الآخر مسجون ومعتقل ومضطهد وملاحق ومهدور دمه فيما تبقى له من أرض.

وإذا انطلقنا من مفهوم "أن إسرائيل هي دولة حليفة للغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص", فإن هذا المفهوم يمكن إسقاطه على علاقة العديد من الدول في منطقتنا بالغرب والولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن اهتمام الغرب وأمريكا بهذه الدول الأخرى لا تساوي شيئًا مقارنة باهتمام الغرب والولايات المتحدة بإسرائيل، علما أن هذه الدول توجد بها سوق واسعة لتصريف المنتوجات الغربية، وتملك ثروات وموارد الطاقة (النفط والغاز) الذي يعتمد عليهما الغرب في تحريك عجلة إنتاجه.

كما يحتفظ الغرب وخاصة الولايات المتحدة بقواعد عسكرية على أراضي هذه الدول برًّا وبحرًا. وبالعكس من ذلك، فإن هذه السمات مجتمعة غير متوفرة في إسرائيل، ناهيك عن المساحة الصيقة والمحدودة جدًّا لإسرائيل.

وإذا دققنا أكثر في هذه العلاقة، سنجد أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل لها شكل وحضور آخر، غير تلك العلاقة التي تربط الدول الأوروبية بإسرائيل.. فما هو جوهر الاختلاف؟ وما هو سر ذلك؟

أما جوهر الاختلاف في علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل - والعكس صحيح - يتمثل في التالي:

1 . إن الولايات المتحدة تقف دائما متضامنة ومؤيدة ومساندة لكل سياسات وإجراءات وأفعال إسرائيل السياسية والعسكرية والأمنية وغيرها وبدون أي تحفظ، بينما الدول الغربية الأخرى ليست بهذا المستوى.

2 . الدعم المالي غير المشروط الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة. وهذا الدعم المالي دائما ما يأخذ طابع المنح والمساعدات التي لا ترد، وليس كقروض مطلوب استعادتها بعد أجل معين مرفقة بالفوائد أو بدونها.

3 . الدعم العسكري غير المحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل باستمرار، إلى درجة أن وضعت مخازن أسلحتها مفتوحة لتموين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية كلما احتاجت إسرائيل لذلك.

4 . قامت الولايات المتحدة بدور الحامي والحارس والمدافع عن إسرائيل على المستوى الدولي. وأنصع مثال على ذلك هو دفاعها عن إسرائيل في مجلس الأمن من خلال استخدامها حق الفيتو لإسقاط أي إدانة أو قرار ضد إسرائيل.

5 . كما أن موقف ودور الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) في حربها المستمرة ضد غزة يشكل حالة خاصة ومتميزة في سياق وتاريخ هذه العلاقة بينهما...

وبدون الدخول في التفاصيل، يمكننا توضيح علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل في هذه الحرب المدمرة على النحو التالي:

* كان رد فعل الولايات المتحدة على ما حدث في يوم السبت الموافق 7 أكتوبر 2023 - طوفان الأقصى - سريعًا وهستيريًا وغير مسبوق، وكأن ما حدث في ذلك اليوم قد حدث في الولايات المتحدة، وليس في إسرائيل.

* وصول القيادات السياسية والعسكرية من واشنطن عقب الحدث مباشرة إلى إسرائيل، فأتى الرئيس بايدن، ووزير خارجيته، ووزير الدفاع، والأمن القومي، والاستخبارات ومن لف لفهم، وكانت زياراتهم متكررة.

* تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لقيادة وإدارة الحرب على غزة.

* الإعلان الصريح بالوقوف مع إسرائيل في حربها ضد غزة حتى تحقيق جميع الأهداف التي أعلنتها إسرائيل من هذه الحرب.

* الأخذ بكل المرويات والادعاءات الإسرائيلية من قبل الولايات المتحدة بدون تمحيص أو تدقيق، برغم دحض تلك المرويات الإسرائيلية في الواقع.

* الوقوف ضد كل القرارات التي أتخذها مجلس الأمن ضد إسرائيل، الخاصة بحرب غزة.

* تقوم الولايات المتحدة بدور المفاوض بدلًا عن إسرائيل فيما يخص وقف الحرب في غزة وتبادل الأسرى والمعتقلين. وقد أظهرت الولايات المتحدة تشددًا فيما يخص إقرار الصفقة حتى لا تخرج إسرائيل وكأنها مهزومة.

* مارست الولايات المتحدة ضغطا غير مشهود ضد الدول العربية، محذرة هذه الدول من تقديم أي دعم لسكان غزة، أو فتح حدود بعض هذه الدول لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة بدون رغبة وسماح حكومة إسرائيل.

وإذا انتقلنا إلى آخر المعطيات الخاصة بنتائج هذه الحرب القائمة في غزة طوال أكثر من 190 يومًا، فإن الإحصاءات الأولية تشير إلى التالي:

(1) تم اجتياح قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه

(2) تم ارتكاب 2439 مجزرة.

(3) استشهاد نحو 34 ألفا، منهم نحو 25 ألف امرأة وطفل.

(4) إصابة نحو 75 ألف بجراح.

(5) تم إبادة الكثير من الأسر بشكل كامل.

(6) تم تدمير الكثير من المناطق والمربعات والأبراج السكنية بشكل كامل.

(7) تم تدمير أماكن العبادة الإسلامية والمسيحية.

(8) تم تجريف الطرقات والمزارع، وتم قتل المواشي وكل مصادر رزق المواطنين.

(9) تم تدمير المرافق الصحية بكل مستوياتها، وكذا الطواقم الطبية.

(10) تم تقطيع القطاع حتى يسهل العمل للجيش الإسرائيلي في كل مناطق قطاع غزة.

(11) تهجير السكان من مناطق الشمال والوسط إلى الجنوب(رفح) كمرحلة أولى، ثم الهجوم على رفح كمرحلة ثانية، وتهجير من تبقى من سكان القطاع إلى خارج قطاع غزة، وهذا هو واحد من أهداف الحرب على غزة.

(12) تم استخدام سياسة الإبادة الجماعية والتجويع.

وبالعودة إلى عنوان موضوعنا هذا " حرب إسرائيل على غزة، وما ترتب عنها من سقوط لقيم " العالم المتحضر"، من المؤكد أن هذه الحرب قد ذكرتنا بمجموع القيم الغربية التي حرصت المجتمعات والدول والحكومات الغربية على إفهامنا إياها، أنها متجسدة ولصيقة بهم، وأننا نحن الشرقيين نفتقر لكل هذه القيم، وأن واجبهم ومسؤوليتهم التاريخية الموكلة إليهم، هي العمل على غرس هذه القيم فينا.. إلا أن التجربة التاريخية والواقعية لسلوك الغرب، وممارسة إسرائيل منذ تأسيسها وانتهاء بحربها الحالية في غزة، قد أثبتت لنا وللعالم كله، أن هذه القيم الغربية ليست سوى شعارات كاذبة، يتم رفعها في وجه الآخرين كفزاعة، وأن لا علاقة لهم البتة بهذه القيم.

* فلا هم عالم متحضر، والدليل نتائج هذه الحرب على أهلنا في غزة. فكيف تكون متحضرًا وأنت تشاهد كل هذه المجازر التي تجاوزت في عنفها وهمجيتها ودمويتها كل وصف.

* وقيمة الحرية التي يلهج بها الغرب ليل نهار ضاعت وسط رمال غزة، كما ضاعت على الفلسطينيين منذ وعد بلفور عام 1917 الذي أهدى أرض فلسطين لمن لا يملك هذه الأرض، مرورا بالانتداب البريطاني على فلسطين الذي خلق التربة الخصبة لهجرة اليهود إلى فلسطين، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وانتهاء بتأسيس دولة إسرائيل بموجب قرار مجلس الأمن رقم (181) في 29 نوفمبر 1947 الذي على أساسه تم تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين: فلسطينية وإسرائيلية. إلا أننا نجد أن إسرائيل قد تأسست في عام 1948، أما الفلسطينيون فما زالوا منتظرين، والسبب أن الغرب بشكل عام والولايات المتحدة أساسا رافضين إعطاء الفلسطينيين دولتهم. ويعني ذلك أن الحرية لليهود مشروعة وواجبة، ومنعها عن الفلسطينيين.

* وقيمة العدالة هي واحدة من تلك القيم التي ينادي بها "العالم المتحضر" باستمرار.. فهل كل ما نشاهده على أرض غزة وفي الضفة الغربية يمت إلى هذه العدالة بصلة؟

كما أن المطالبة بالعدالة من قبل الغرب، قامت ولم تقعد فيما يخص هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 على غلاف غزة، ولكن هذه الدول صمتت صمت القبور على كل ما يحدث في غزة على امتداد نحو سبعة أشهر!

*وهكذا هي الحال بالنسبة لقيم أخرى مثل المساواة والديمقراطية وغيرها، إذ نجد أن الفلسطينيين لا يستحقون إقامة دولتهم المستقلة، بينما يستحقها الإسرائيليون، على الرغم أن القرار رقم (181) الصادر من قبل مجلس الأمن في 29 نوفمبر 1947 كان خاصًّا بتأسيس دولتين: فلسطينية وإسرائيلية. ومن تابع مداولات مجلس الأمن في يوم الخميس الموافق 18 إبريل 2024 بخصوص طلب الجزائر بمنح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، الذي تم رفضه باستخدام الفيتو من قبل الولايات المتحدة، سيدرك صدق ما ذهبنا إليه فيما يخص سقوط الغرب قيميًا.

وبالعودة إلى سؤالنا الذي أجلنا الإجابة عليه، الخاص بجوهر وسمة دولة إسرائيل، فإننا نقول: إن إسرائيل هي جزء لا يتجزأ من الولايات المتحدة الأمريكية، تم وضعها في منطقتنا، وقد حددت لها مهام متعددة. وهذا موضوع آخر يطول شرحه.



* أكاديمي وباحث سياسي واقتصادي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى