ما كان لي وأنا في المرحلة الثانوية أن أصبح في يوم من الأيام دون أن أطلع على الصفحة الثقافية في صحيفتين على الأقل من الصحف في بلادي، وإحداهما لا أزال إلى اليوم أطَّلع على ما تنشره وأقرأها بصورة شبه يومية، بعد أن صار من الممكن قراءة أي صحيفة في العالم من خلال الهاتف، والأجهزة اللوحية وشاشات الحاسوب، ومازلت أتذكر لحظات جلوسي مع بزوغ شمس كل صباح جديد، وقبل توجهي إلى مدرستي، وأحياناً بعد انتهاء اليوم الدراسي، في ذلك المقهى الشعبي العتيق بحي مدينة عدن القديمة (كريتر) لاحتساء الشاي، وقراءة محتوى الصفحة الثقافية في صحيفتي التي أحببت، وكأن ثمة رابطاً روحياً كان يشدني شداً إلى ذلك المكان وتلك اللحظة، التي تتيح لي اكتساب مزيد من الفائدة والمتعة مما كنت أقرأه في الصفحات، فلم يكن يعنيني من أي صحيفة تقع في يدي إلا الصفحة الثقافية فيها بالدرجة الأولى، وأحسب الأمر كذلك لدى الآخرين مع صفحات اختصاصاتهم واهتماماتهم الشخصية المختلفة، وهذا ما يجعل المرء دائم الارتباط مع ما يحب من مجالات الفكر والآداب والفنون.

أما اليوم فقد تغير الوقت وتغيرت معه الصحافة الثقافية في أكثر من مكان، صرت ألاحظ قلة اهتمام كثير من الصحف العربية بتخصيص صفحة للمنشورات ذات الطابع الأدبي والثقافي عامة، بعضها يستكثر إفراد صفحة كاملة للثقافة وقد قلصها إلى النصف ثم إلى الربع، وبعضها الآخر ينشر المادة الثقافية على استحياء وعلى فترات متفاوتة، أما البعض الثالث فقد ألغاها نهائياً، لأن المساحة التي كانت مخصصة لها فضَّل أن يستفيد منها فيما يدر عليه ربحاً مؤكداً يضمن له الاستمرارية، ويبعد عنه شبح التوقف عن الصدور، وأعني هنا المادة الإعلانية بشكليها المكتوب والمصور، والتي أصبحت طاغية على الغالبية الغالبة من الصحف في عالمنا العربي، وهذه إشكالية حقيقية وواقع يعيشه اليوم كل من له علاقة بميدان الصحافة والثقافة.

أعود الآن إلى صحيفتي التي أحببت والتي أخصها بمقالتي هذه، والتي ظللت لسنوات طويلة أفضِّلها على سواها من الصحف، وقد تشرفت في فترة من حياتي بالكتابة والنشر في صفحتها الثقافية التي لم تكن تختفي طوال أيام الأسبوع، بقيتُ زماناً أشتريها.. أقرأها وأحتفظ بما يهمني من أعدادها (ولا أزال أحتفظ ببعض أعدادها إلى اليوم) فكانت قراءتي لها نوعاً من الالتزام لم أقصِّر فيه أو أتركه لأي سبب، وأذكر أنه كانت تستهويني كتابات عدد من كتابها الدائمين من أصحاب الأقلام الأدبية المبدعة، فكانوا يلامسون بما ينشرون فيها مكامن الإعجاب والاهتمام في نفسي، حتى إنني في أحايين غير قليلة كنت أذهب إلى مقر الصحيفة ذاتها لأقابل منهم من أتوقع لقاءه هناك، فقد كان بعضهم يعمل في هيئة تحريرها، أو في مطبعتها الشهيرة الملحقة بمقرها، ومن هنا جمعتني بهم ونشأت بيننا علاقة صداقة أثمرت لقاءات وجلسات على موائد الشعر والأدب، لا تُنسى ولا يعتريها بهوت وخفوت في الذاكرة مع مرور وانقضاء السنين.

وتَمرُّ مواكب الزمن آخذةً من أعمارنا أنضرها، ويتبدل أديم الحياة من غض وطري تندِّيه أحلام الشباب وأمانيه الفتية، إلى قاسٍ وجاف شقَّقته عجلات الأيام، وهي تعبر عليه مسرعة من محطة إلى أخرى نحو آخر المشوار، فإذا بصحيفتي الحبيبة تنضو عنها ثوب تألقها الزاهي، وترتدي ثوباً غريباً لم أعهده عليها من قبل، وإذا بمسحة من غبرة الكآبة تغطي محياها الصبيح كي تطفئ إشراقته السَّنية، حتى الأقلام فيها ما عادت هي الأقلام، فالرصين والمبدع منها انتزعت يد المنون بعضه وصار عند المليك المقتدر، وبعضه الآخر تقاذفته أمواج الحياة فتوارى وانكفأ على نفسه في عزلة جائرة، ولم يبق إلا السطحي الهش الذي لا طعم له ولا رائحة، لم يبقَ من أقلامها إلا مَن يقدم القشور على طبق من نتاج زائف وبارد لا نبض فيه ولا حرارة، أما مَن كانوا يَنفذون إلى اللباب ويأتون من هناك بالعجب العجاب، ويأتون بكل جميل موشًى بأصناف القول وأنواع التعبير الباهية، يهدوننا إياها باقات ذهبية مغلفةً بالفوائد العظيمة، أولئك لم يعد لهم وجود، إلا القلة القليلة الباقية التي مازالت تقاوم رياح الزمان العاتية، تمدنا أحياناً بقبسات خاطفة من شعلة الإبداع الكامنة في أعماقها، في الصحيفة التي باتت (تتكرم) على قرائها بين الفينة والأخرى بصفحة ثقافية، بعد أن باتت تلغيها من أعدادها باستمرار لصالح موضوعات أخرى، وفي رأيي أن أي صحيفة تخلو من صفحة ثقافية يظل ينقصها الكثير لتكتمل وتصبح ذات فائدة وتحقق الغاية من صدورها.

وبعد .. فإن الخشية كل الخشية من أن يأتي يوم تختفي فيه الصفحة الثقافية من الصحيفة، لتحل محلها صفحة أكثر أهمية بالنسبة لأصحابها، حينها وحينها فقط سنكتب جميعنا مرثية واحدة ننعى فيها الثقافة في صحيفتنا التي نحب وقد ذهبت إلى غير رجعة، وسوف نندم على سكوتنا حين كان بإمكاننا الكلام، ولات ساعة مندم.



عن "مجلة الشارقة الثقافية"