​في 14 من أغسطس عام 2010 م فاضت روح الأديب العملاق والشاعر الكبير وصوت التوعية والقومية العربية الأستاذ أحمد السقاف إلى بارئها، بعد حياة زاخرة بالنضال ومفعمة بقيم العمل القومي العربي والألق الإبداعي شعرًا ونثرًا؛ سخره ؛ على مدى أكثر من ستين عامًا، للقضايا العربية التي آمن بها حتى أسلم روحه لخالقه بعد تسعين ونيف من السنين، راضيًا مرضيًا، مرصعًا بنياشين حب امته له، ليس في الكويت فحسب أو اليمن فقط؛ بل في كل أصقاع العروبة ما بين الماء والماء من طنجة حتى المنامة ومن حلب حتى عدن.

لم يكن ابن الوهط ـ إحدى حواضر سلطنة لحج العبدلية ـ المولود للتو؛ وغبار الحرب العالمية الأولى لم ينقشع بعد، يدرك أن رحلته الكبرى تبدأ من جنوب الجزيرة العربية ليحط بكلكله في رأس الخليج العربي.. الكويت فنار الخليج المشع نورًا وفكرًا وثقافة بعد أن قصد عاصمة الرشيد بغداد عام 1937م للعلم ضمن بعثة طلابية رافقه فيها من لحج الأستاذان فضل عوزر وصالح بامعافى.

كانت  بغداد - كدأبها - تكتظ بمزاحمات الشعر والأدب والسياسة، ليجد السقاف الشاب نفسه في الفضاءات الممتلئة إبداعًا بما في ذلك إبراز مواهبه المتعددة كتابة وصوتًا تمرس في الإلقاء عندما كان طالبًا ثم معلمًا في المدرسة (المحسنية) بحوطة لحج المحروسة على عهد مديرها أحمد حسين الدباغ القادم من الحجاز.

 هناك في أثير إذاعة بغداد يزامل الشاعرة نازك الملائكة وقد بدأت شمسها بالصعود رويدًا رويدًا في سماء بغداد قادمة من بيت أركانه العلم والأدب والثقافة والفكر.
 كانت عناية السقاف بمقالاته المذاعة محط تقدير القائمين على الإذاعة وجواز سفر للدخول إلى مجتمع النخب المثقفة في بغداد.

كان لموجات التقلب السياسي العاتية في أجواء العراق أثناء الحرب العالمية الثانية أن تجعل بعض الساسة يتجهون صوب برلين النازية للخلاص من ربقة الاستعمار البريطاني، وهم كمن يستجير من الرمضاء بالنار كما فعل علي رشيد الكيلاني بثورته عام 1941م، مما حرك المشاعر القومية للشباب العربي الدارس في بغداد للوقوف معه بعد أن واجهته القوات البريطانية بكل قوة، وكان تشكيل الكتيبة العربية من هؤلاء الطلاب ومن بينهم أحمد السقاف، بقيادة البطل الفلسطيني عبدالقادر الحسيني شهيد القسطل فيما بعد في فلسطين، ولكن حركة الكيلاني وأدت في مهدها واستعاد الإنجليز زمام المبادرة، ولم تكف ملاحقاتهم لمن شارك في تلك الحركة ومنهم السقاف الذي خرج من مشاركته بجرح في ساعده اعتبره وسامًا كما أحب أن يصفه.

وتحتضنه الكويت وهي بعد تحبو في مضمار نهضتها الحديثة، فعمل السقاف مدرسًا في المدرسة الشرقية - إن لم تخنِ الذاكرة - ثم مديرًا لمدرسة، وكان جهده الثقافي بأبعاده الشعرية والنثرية لا يتوقف دون أن يتراجع عن مبادئ وفكر القومية العربية التي سيجد لها في الكويت منبتًا فطريًّا وغريزيًّا ينمو مع نمو إنسان هذه الأرض العظيمة.

فمع مجايليه في الفكر العروبي الصادق أسس النادي الثقافي العربي وأصدر مجلته المسماة (الإيمان) ورديفها (صدى الإيمان) وكانت المنتديات وهي بمثابة (صالونات) ثقافية تغطي فضاء الثقافة والفكر تنعقد أسبوعيًّا،  حيث لم تدخل كثير من شواغل العصر المعرفية كما نشاهدها اليوم في حياة المواطن في الجزيرة والخليج العربي في تلك الأيام.

 وبالنظر إلى إسهامات السقاف في نهضة الكويت الحديثة لا يمكن نسيان إصداره السبق لمجلة (كاظمة) كأول مجلة تصدر وتطبع في الكويت عام 1949 م بالمشاركة مع زميله عبدالحميد الصانع، حيث إن مجلة(الكويت) الشهيرة والمعروفة كانت تطبع منذ صدورها عام 1927م - إن لم تخنِ الذاكرة أيضًا - خارج الكويت.

 ومع أن (كاظمة) لم تستمر أكثر من تسعة أشهر أي أن الجنين مات يوم ولادته، إلا أن الفكرة بتأسيس مجلة عربية جامعة تدخل كل بيت عربي كانت حلم السقاف  الذي بدأت ملامحه تتضح أثناء عمله في إدارة الأنباء والإرشاد قبل تأسيس الوزارات، تحت قيادة سمو الشيخ صباح الجابر الصباح الذي أصبح؛ بعد استقلال الكويت عام 1961م؛ وزيرًا لخارجية الكويت؛ بل أعرق وزير خارجية وعميد للدبلوماسية العربية على الإطلاق، ثم أميرًا للكويت، والذي عرف عنه إيمانه بالقضايا العربية وتفانيه في تعزيز العلاقات العربية - العربية ورأب الصدع وإطفاء نيران الاحتراب بين الأخوة أين ما وجدت غائلة الفتنة.

فلولا هذا الرجل لوجد السقاف صعوبات في إخراج فكرته الحلم بإصدار مجلة عربية بمزايا المعرفة والفكر والحداثة وبطباعة راقية مكلفة وبثمن رمزي يستطيع أي مواطن عربي أن يدفعه لشراء هذه المجلة.

 ولعلنا نشير إلى السعي الحثيث للسقاف قبيل إصدار مجلة (العربي) ورحلته المباركة إلى العراق وسورية ولبنان ومصر للتعاقد مع خيرة الكفاءات الإعلامية والعلمية والفكرية والأدبية في الوطن العربي وعلى رأسهم العلامة الكبير الدكتور أحمد زكي، لإصدار المجلة كشعلة نور مبكرة تسطع من رأس الخليج العربي وتصل إلى أصقاع العروبة ابتداء من ديسمبر 1958م بكل ذلك البذخ المعرفي والفكري والثقافي والأدبي الذي جسدته (العربي) مجتازة الحدود المصطنعة، ودون تفاخر أو تباهٍ من بلد المصدر الكويت كعادة أهل الكويت والاكتفاء بسطر يكاد لا يرى في غلاف المجلة فحواه (تصدر عن وزارة الخارجية الكويتية).

 كل ذلك يتم والكويت بعد تحت الإدارة البريطانية، والكويت ـ أيضًا ـ في بدايات نهضتها النفطية والمالية، وهو الإحساس الكويتي الراقي بإشراك إخوته العرب فيما وفره الله للكويت من نعم.

لعله من الصعوبة بمكان الإلمام في مقالة بكل تفصيل الحياة الأدبية والفكرية والسياسية والدبلوماسية لأحمد السقاف، لعلنا نستحضر قطوفًا دانية من سيرته العطرة ما أمكننا العزم أن نلم به، فقد كان نصيرًا لكل القضايا العربية من فلسطين ومصر والجزائر واليمن بشطريه ولبنان والعراق، والخليج العربي والجزيرة العربية حيث جلجل صوته في المحافل الأدبية شعرًا ونثرًا منددًا بالغطرسة الفارسية على أيام الشاه وعلى عهد الملالي الحاليين وحتى وفاته.

 ولعلي أتذكر أنه الصوت الأول الذي ندد في مؤتمر الأدباء والكتّاب العرب أوائل السبعينات بالاحتلال الإيراني للجزر العربية (طنب الكبرى) و (طنب الصغرى) و(أبو موسى) التابعة لدولة الإمارات، ناهيك عن تصديه لكل الغطرسة ومحاولات الهيمنة على العرب سواء من قبل إسرائيل أو الغرب الاستعماري، واقفًا إلى جانب مصر عبدالناصر في كل مراحل التجربة العربية الناصرية المساندة والمدافعة عن الحقوق العربية.

 وقف في حفل كبير لجمع التبرعات للجيش المصري قبيل النكسة بأيام ليلقي قصيدته العصماء والتي نشرت في مجلة (العربي) ومنها هذه الأبيات:
الأرض أرضك قم للثأر منتقمًا
والجرح جرحك فاسحق رأس من ظلما
 لا تحفلن بأسطول يدل به
طاغٍ يجر إلى تابوته قدم
وصرخة الحق تأباها مسامعهم
من يسمع الحق منهم يشتك الصمما
يا قائد العرب إن العرب قد نفرت إلى
القتال تلبي القدس والحرما
فارفع لواءك منصورًا فما عقمت
عروبة أنجبت عمرا ومعتصما
وسر بها نحو مجد هزه خور
فظن بعض الأعادي أنه انهدما

وكثير من الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية قد تعمقت في المنحى العروبي في شعر أحمد السقاف، بل أن أحدهم قد تناول البلدان العربية في ديوان السقاف الجامع، حيث سنجد فلسطين بتنوعات مدنها من القدس والضفة وغزة، ومصر والقاهرة وصنعاء وعدن وحجة والكويت والعراق وبغداد والجزائر وتونس والمغرب وسورية ولبنان وليبيا وجدة وعمان، دون أن يعني ذلك انغلاقه إنسانيًّا وهو الذي تغنى بإسبانيا و(مونترو) في سويسرا وبالمناضل الأممي الأفريقي نلسون مانديلا.. وحتى بالنملة.

  والعجيب أن السقاف العملاق بكل اهتماماته القومية وعمله الدائب في الهيئة العامة للجزيرة والخليج العربي والتي قدمت العون الأخوي لأشقاء الكويت في الخليج قبل ظهور النفط واليمن شمالًا وجنوبا والسودان وجيبوتي، واستغراقه الأدبي في رابطة الأدباء في الكويت كأمينها العام لسنوات طويلة ورئيس وفدها في اجتماعات اتحاد الأدباء والكتاب العرب ومهرجاناته الشعرية إلا أنه كان رمزًا من رموز الرومانسية التي تتفاعل إنسانيًّا ووجدانيًّا في مختلف مسارات الحياة من حب وعاطفة ووجد وباستطاعتنا أن نقتنص من جنان السقاف الشعرية قصائد وجدت طريقها لأشهر الموسيقيين العرب والفنانات مثل نجاة الصغيرة ونور الهدى، ناهيك عن قصيدة خطها عن ثورة الجزائر لحظة أن تلقف سمعه خبر توقيع اتفاقية خروج فرنسا من بلد المليون شهيد وهي تتردد في مناسبة الاستقلال في البلد العربي الثائر.

وكانت قصيدة (اللقاء العظيم) ذائعة الصيت هنا في عدن والتي لحنها وغناها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي واحدة من أجمل ما كتب السقاف في القريض حبًا وتقول أبياتها:
لك الله من قلب يمزقه الألم
ويا نفس صبرًا إن ألم بك السقم
ينام خلي القوم ملئ جفونه
ونوم ذوي الشوق المبرح كالعدم
تعلقتها عن غير قصد فأصبحت
خيالي وأفكاري التي تلهم القلم
فوالله لو مرت بشيخ معمر
عظيم التقى يوما لحل به لمم
وراح يجيل الطرف في كل فاتن
وأنكر أعوام التهجد وانهزم
لها طلعة لن يلمح المرء مثلها
وإن طاف في دنيا العروبة والعجم
تناسقت الأعضاء فيها وأنها
لتمثال فنان ولوحة من رسم
ويطربني منها حديث مهذب
رقيق المعاني رائع الجرس والنغم
وإن ضمها في ساعة الإنس مجلس
فإن جميع الحاضرين لها خدم
نظرت إليها نظرة جانبية
فأغضت حياء وهي تعلم ما اكتتم
وقد سرني أني آثرت اهتمامها
وإن الهوى قد ثار في القلب واحتدم
وفي ليلة سدت طريقي كأنها
عمود ضياء شق ما ساد من عتم
فأطرقت والقلب المتيم خافق
إلى رشفة ترويه من شفة وفم
وقلت لها نفسي الفداء فإنني أرى
إن هذا الحسن يعبد لا جرم
فكوني كما أبغي خيالا لشاعر
يترجم أسرار الجمال إذا نظم
ولكنها والله يغفر ذنبها
أشاحت وقالت أنت في الحب متهم
لعل فتاة قد سبتك بدلها
فأنت ترى حفظ العهود من الشيم
فأقسمت بالقد المهفهف أنني
أسير لعينيها وما نفع القسم
وصدت صدودًا لا أطيق احتماله
وبت كما بات السليم ولم أنم
ولما مضى شهران جن جنونها
وعادت وفي اللحظين يرتسم الندم
وسامحتها لما تساقط دمعها
جمانًا ولما صدرها جاش بالألم
وهمت بتوديعي فجددت موعدا
يزيل الذي من هاجس الوهم قد نجم
فلم ترض إلا أن يكون لقاؤنا
غداة غد بين الكنيسة والحرم