> موسكو "الأيام" العرب اللندنية:

​كشف التصعيد الجاري في الشرق الأوسط عن تراجع دراماتيكي للتأثير الروسي في المنطقة. وتاريخيا، كانت موسكو بارعة في استثمار الأزمات، لكن الأزمة الحالية، وبحسب مقال لبافيل كيبايف من مؤسسة جايمس تاون، قد أظهرت عجز روسيا عن الدخول في أي شراكة فاعلة مع أولئك الذين يعارضون مواقف غريمتها الولايات المتحدة.

وكانت الإشارة الضعيفة الوحيدة من الكرملين في الأيام الأخيرة هو بيان “القلق البالغ” الصادر عن نائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف، الذي وصف احتمال شن ضربات إسرائيلية على المنشآت النووية في إيران بغير المقبول. وهو موقف يتقاطع مع موقف المرشح الجمهوري الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أعرب بدوره عن القلق بشأن عواقب الضربة على المنشآت النووية الإيرانية.

ويعزى تراجع مكانة روسيا على الصعيد الدولي إلى الحرب التي تخوضها في أوكرانيا، وعلى خلاف الولايات المتحدة لا تملك روسيا اليوم أيّ أدوات تأثير على الوضع في الشرق الأوسط ما يلحق ضررا بسمعتها بين القوى العالمية.

وكانت سوريا مركز نفوذ رئيسي لروسيا في الشرق الأوسط. لكن زيارة الرئيس السوري بشار الأسد القصيرة إلى الكرملين في يوليو 2023 كشفت عن ضعف اعتماد دمشق على موسكو وطهران كمصدرين محوريين للدعم.

وليس للقيادة العسكرية الروسية علم كبير أو سيطرة على تزويد طهران لدمشق بالأسلحة، ولا تتناقل وسائل الإعلام الروسية سوى التقارير الأساسية، مثل تقرير يغطي الضربات الإسرائيلية على نفق تهريب تحت الحدود السورية – اللبنانية.

ويتناقض هذا مع الضربة الإسرائيلية على قاعدة حميميم الجوية الروسية في الثالث من أكتوبر الجاري، والتي شهدت تعتيما إعلاميا. ولم يجرؤ سوى عدد قليل من المدونين على توضيح أن الهدف كان منشأة تخزين ذخيرة إيرانية، وليس القاعدة الروسية نفسها.

وتضررت المنشأة التي شيدت بالقرب من محيط القاعدة الجوية، وخابت توقعات اعتراض أنظمة أرض جو الروسية الصواريخ القادمة. ولم يتبق شيء من “العلاقات الخاصة” الطويلة التي جمعت روسيا وإسرائيل، ولم يعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتواصل مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

وأصبح التعاون الروسي - الإسرائيلي يقتصر على إجلاء المواطنين الروس في لبنان. وانتقدت وسائل الإعلام الحكومية في روسيا الغارات الجوية الإسرائيلية والعمليات البرية ضد حزب الله في لبنان.

ويؤكد الخبير السياسي الروسي ستانيسلاف تاراسوف أن حزب الله سيثبت كونه قوة قتالية هائلة على الرغم من قطع إسرائيل مؤخرا رأس القيادة الحالية. وشكّلت الهجمات على حزب الله ضربة كبيرة لمصالح الكرملين، حيث ساعدت الجماعة اللبنانية روسيا خلال تدخلها العسكري في سوريا.

وحذر ألكسندر بورتنيكوف، مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، من أن انفجار أجهزة البيجر في لبنان، الذي شل حركة المئات من مقاتلي حزب الله، يشير إلى تهديد محتمل للقيادة الروسية من خلال “تدمير البنية التحتية الحيوية للمعلومات، وتنظيم استهدافات لممثلي الحكومة باستخدام الإلكترونيات المحمولة في الوقت المناسب”.

ويكشف هذا التصريح عن القلق الحالي في الكرملين بشأن الحرب بين إسرائيل وإيران، الحليف الرئيسي لروسيا في المنطقة. وسعى بوتين إلى تعزيز الدعم الروسي لإيران، ووافق مؤخرا على معاهدة بشأن شراكة إستراتيجية شاملة، وقعها مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في موسكو. لكن جاذبية خطة إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الوثيقة مع هذا النظام الفاشل تراجعت.

وتقهقر موقع إيران على الساحة الدولية بينما تبدو خطط ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الهادفة لتجنب العقوبات الغربية سابقة لأوانها. وجنت إيران فوائد ملموسة من روسيا من خلال تزويدها بالطائرات المسيرة ومئات الصواريخ الباليستية قصيرة المدى.

وأصبحت موسكو مجبرة على الرد بالمثل من خلال تزويد إيران بتقنيات عسكرية متقدمة. ولكن التعقيدات التي صنعتها بنفسها تشمل تحقيقات جهاز الأمن الفيدرالي مفرطة اليقظة واعتقال العديد من العلماء. ويعطل هذا الأبحاث حول مشاريع الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.

واستغلت موسكو في السابق الأعمال العدائية في الشرق الأوسط لصالحها، وخاصة في مجال النفط. وشهد الأسبوع الأول من شهر أكتوبر ارتفاع السعر القياسي لخام برنت بنسبة 5 في المئة، رغم ارتفاع مخاطر الضربة الإسرائيلية على محطات النفط الإيرانية.

ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى المملكة العربية السعودية، الطرف الرئيسي الذي يوجه السوق والغاضب من الانتهاكات المتكررة لحصص الإنتاج التي وافق عليها أعضاء أوبك+.

وتلجأ روسيا إلى صفقات مريبة لتصدير النفط عبر “أسطول الظل” المكون من الناقلات، مما يعزز عدم استقرار السوق ويقوض الثقة في السلطات التنظيمية. وتبدو موسكو مستعدة لاعتماد مثل هذه الأساليب لأنها تحتاج إلى كل دولار نفط إضافي لخفض العجز الذي تتكبده ميزانيتها التي تركز على الحرب، بما في ذلك المخاطرة بإغضاب الرياض.

وتأمل روسيا في استغلال المخاوف المتضائلة نسبيا بشأن الحرب في أوكرانيا مع تحول التركيز الدولي نحو الشرق الأوسط، وتطمح إلى الكشف عن عجز الولايات المتحدة عن إدارة الأزمات لمصلحتها السياسية الخاصة. ويحاول الغرب التصدي لهذه الجهود. وشدد مارك روته، الأمين العام الجديد للناتو، في تصريح الأسبوع الماضي، على أن أوكرانيا لا تزال على رأس أولويات الحلف من خلال زيارة كييف.

وسيرأس الرئيس الأميركي جو بايدن الاجتماع رفيع المستوى هذا الأسبوع بصيغة رامشتاين، مما يشير إلى اتخاذ قرارات مؤثرة، بما في ذلك منح أوكرانيا الإذن باستخدام أنظمة الأسلحة الغربية بعيدة المدى. وتسلط إعادة تأكيد الغرب على دعمه لأوكرانيا الضوء على قضية التصعيد. ويسعى بوتين إلى زيادة حدة هذه القضية بتصعيد الرهان على سياسة حافة الهاوية النووية.

ويقدم الشرق الأوسط منظورا جديدا حول هذه القضية حيث تسعى إسرائيل وإيران إلى ردع الآخر وإضعاف ثقة المعارضة في قدرات كل منهما على إنهاء التصعيد. لكن تحذيرات بكين ونيودلهي لموسكو بشأن العواقب الوخيمة للاستخدام الأول للأسلحة النووية تقلل من قدرة روسيا على تصعيد التوترات.

وتستثمر روسيا جهدا كبيرا في تصوير نفسها للعديد من الجهات الفاعلة الحكومية في الجنوب العالمي بطلة ضد النظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب. لكن استعداد موسكو لاحتضان عوامل مزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط مثل حزب الله في سوريا ولبنان، وحماس في غزة والضفة الغربية، والحوثيين في اليمن، يكشف عكس هذا.

وتسرع كل ضربة إسرائيلية على البنية التحتية التابعة لهذه الجماعات تآكل مواقع روسيا في المنطقة وتقوض قدرتها على شن حربها التي لا يمكنها الفوز بها في أوكرانيا.