> علوي بن سميط:

الفتة الحضرمية ليست مجرد وجبة عادية؛ بل هي رمز للتراث الحضرمي الذي يعكس تقاليد الطهي وكرم الضيافة، خاصة في المناسبات الكبيرة والولائم.

ارتبطت هذه الوجبة على مدار عقود بولائم الأعراس في مدينة شبام الحضرمية والمناطق المجاورة، حيث كانت تُحضّر بكميات كبيرة لتقدم على موائد تجمع الأهل والأصدقاء في أجواء من الألفة والمشاركة، وتحضير الفتة يبدأ بخبز القمح المطحون الذي يتم خبزه في التنانير التقليدية، ليترك حتى يجف ويصبح صلبًا، ثم يُدق بواسطة أدوات بسيطة، حيث تُحوّل قطع الخبز إلى حبيبات صغيرة تُعرف بـ "الحثيث".

في الماضي، كانت هذه العملية تعتمد على الجهود الجماعية، حيث يتعاون الجيران مع أسرة صاحب المناسبة لتحضير الكميات اللازمة، أما اليوم فقد استُبدلت هذه الطرق التقليدية بالطواحين الحديثة التي تُسرّع العمل وتوفر كميات أكبر.


في يوم الوليمة، تُنقل الفتة إلى مرحلة أخرى من التحضير تُعرف بـ "المفاحسة"، حيث يُضاف إلى الحثيث خليط من البصل والثوم بعد تشويحه في الزيت، لإضفاء نكهة غنية ومميزة. المرحلة الأهم تأتي مع عملية "التصبيغ"، حيث يُسكب مرق اللحم الساخن فوق الفتة، ما يسمح للمرق بالتغلغل في الحبيبات الصغيرة ليمنحها قوامًا طريًا ونكهة لذيذة. كانت هذه الأكلة تُقدم في أوعية خشبية كبيرة، ثم استُبدلت لاحقًا بأوانٍ معدنية واسعة تكفي تجمعات تصل إلى خمسة أشخاص يتناولونها معًا في جو اجتماعي يعزز روح المشاركة.

على الرغم من ارتباط الفتة بولائم الزواج لسنوات طويلة، إلا أنها في العقود الأخيرة تحولت إلى وجبة يومية تتواجد على مائدة الغداء في كثير من المنازل والمطاعم. مطبخ "الأخوين"، الواقع بين شبام والحوطة كان من أبرز الأماكن التي ساهمت في نشر الفتة كوجبة يومية.

ويحرص العاملون فيه على توفير الخبز المدقوق وتحضيره بشكل يومي لتلبية الطلب المتزايد. تُقدّم الفتة في أوعية ورقية أو بلاستيكية صغيرة بسعر 500 ريال فقط، مما يجعلها وجبة اقتصادية ومناسبة لجميع الفئات.

الطباخ محمود مربش، أحد العاملين في هذا المطبخ يشير إلى أن الطلب على الفتة يرتفع باستمرار بسبب مذاقها الفريد وسهولة تحضيرها، ويضيف أن عملية التصبيغ التي تُنفذ بعد صلاة الظهر تمنح الفتة توازنًا مثاليًا في القوام والطعم، حيث لا تكون رطبة جدًا ولا جافة.

الفتة الحضرمية تمثل اليوم مزيجًا رائعًا بين الأصالة والحداثة، حيث ما زالت تحتفظ بجذورها التقليدية في الطهي، لكنها في الوقت نفسه تواكب متطلبات الحياة العصرية. أصبحت هذه الوجبة، التي كانت حكرًا على ولائم الزواج، متاحة للجميع في أي وقت، مما يعكس قدرة المطبخ الحضرمي على التطور مع الحفاظ على طابعه التراثي.

واستمرار الإقبال على الفتة يؤكد مكانتها كواحدة من رموز الموروث الغذائي في حضرموت، حيث تُجسد مزيجًا من النكهات والقيم الاجتماعية التي تجمع بين الماضي والحاضر.