كانت آمال الجنوب بحجم شمسان حقا، وكان الانتقالي بمثابة الجبهة الوطنية العريضة التي بإمكانها حمل هذه الآمال إلى بر الاستقلال من براثن الاحتلال الجائر مذ 1994م.

نقول (جبهة وطنية) دون أن نلغي حق الآخر الجنوبي في العمل بحرية سياسيا واجتماعيا وثقافيا في إطار الجنوب الواحد، فـ (كل الشعب جبهة قومية) -سيء الصيت- قد ولى إلى غير رجعة.

إن استحضار التاريخ كان غائبا عن أرباب الاحتلال لعدن في 1994/7/7م، فالجنوب ليس منطقة من التهائم جنوب ذمار سيقبل الاحتلال بعلاته، فهو لم يرضخ لبريطانيا العظمى رغم أن (العجوز) كانت تعرف كيف تغطي وجه الاستعمار القبيح بمساحيق عصرية جعلت من عدن مدينة (كوسموبوليتيكن) عروسا لبحار الدنيا.

هذا ما كنا نقوله لممثلي النظام ومن المسافة صفر وعلى رأسهم عبدالقادر هلال -رحمة الله عليه- عندما بدأ النظام يتأرجح من قوة الرفض الشعبي لفرض وضع احتلالي لم ولن يقبله الجنوب بالمطلق.

ما جرى بعد التحرير في العام 2015م يختلف عن صناعة الاستقلال في نوفمبر 1967م، كانت القيادات أوانئذ غير مرتهنة لقوى خارجية، حتى أن بريطانيا التي راهنت على الجبهة القومية دونا عن الآخرين لم تكن لتخترق النظام الجديد أو تسيره وفق ما تريد وفشلت محاولات الاحتواء عن طريق الجيش العربي الذي بنته من أبناء المحميات.

ومما ساعد على نجاح تجربة بناء دولة في الجنوب أن القيادات لم تنعزل عن الشعب أو تتمايز عنه في شيء، فراتب سالمين أو قحطان أو فيصل أو عنتر أو علي ناصر كان لا يختلف عن رواتب الموظفين في البلاد كما هو مجسد في الباب الأول لقانون الأجور.

ولذلك، استجاب الشعب لكثير من القرارات القاسية مثل تخفيض الرواتب واجب لأنه لا يرى مسؤولا بعينه قد امتاز عنه راتبا أو نثريات أو امتيازات.. إلخ.

كان سالمين يقترض من البقالة المجاورة لبيته حتى موعد الراتب نهاية الشهر، وكان أولاد الطبقة الحاكمة يذهبون للمدارس الحكومية سيرا على الأقدام وكانت الأراضي الشاسعة أمام أعين الجميع ولا يحدث أي اعتداء من مسؤول أو غيره عليها.

ما حدث بعد التحرير الأخير أن دولة القانون المنتظرة في الجنوب لم تتحقق.

ولعل للتدخلات الخارجية دخل في ذلك، و بدلا من بناء مؤسسات الدولة ضخت الأموال المهولة لنخب سياسية، مما أدى لوقوعها في فخ استلاب القرار المستقل.

وعوضا عن ذلك تم الاعتماد على المال في تكوين ولاءات ضيقة عمادها المال المدفوع ليس إلا.

وأصبح الانتقالي جهاز بيروقراطي يتضخم باستمرار وغير قادر على الحركة النضالية الفعالة بين الشعب أو حتى إقناع الناس بأنه قادر على إنجاز وعوده بالاستقلال المنتظر، واتسعت الهوة بينه وبين شعب يعيش على حافة المجاعة وأرض تتعرض للتفكيك والانقسام، ومقاربات يراها المواطن تتجه إلى احتكار السلطة ووضعها في دائرة ضيقة جدا سواء بالمنطقة أو القبيلة أو العشيرة، مع اعتداءات على الأراضي ومؤسسات الدولة السابقة والفساد المالي والإداري غير المسبوق.

إن ذلك قد شكل طبقة من المتربصين بالانتقالي لكي يقال فيه ما لم يقله مالك في الخمر، وبعضه يأتي ناقدا بعد أن كان في الانتقالي وظل صامتا حتى إذا ما قطعت عليه المصاريف لسبب أو آخر قلب ظهر المجن للانتقالي.

بينما يعتمد الانتقالي في ترويج بضاعته على قوالبه الإعلامية والذباب الإلكتروني التي لا تمتلك البراهين والأدلة القادرة على إقناع الجماهير بصوابية سياسة الانتقالي القائمة.

إن هذا الجيش الجرار ليس باستطاعته فعل شيء حقيقي أكثر من انتظار الرواتب والحوافز المغرية، وجل قوائمه من النطيحة والمتردية وما أكل السبع.

بينهما تتضخم الأداة الدعائية في اللوحات والصور الضخمة والمقولات المكتوبة والمواكب العسكرية المبالغ فيها وقطع الطرقات بأكثر مما كان يفعله النظام المباد، في ظل وضع معيشي مميت يتجرعه المواطنون.

إن رئيس المجلس الانتقالي اللواء عيدروس قاسم الزبيدي بحاجة لمستشارين تكنوقراط السياسية ليست هدفهم الأول، لكنهم حريصون على الجنوب ودولته المستقلة المنتظرة بعيدا عن البطانة المحيطة به والتي ليس من مصلحتها إلا أن يبقى الوضع كما هو.

وأتذكر أنني قد طرحت مثل ذلك في اللقاء بالقائد اللواء عيدروس ضمن مجموعة من المثقفين بعد تشكل الانتقالي في العام 2017م أو العام الذي يليه: بأن يتخذ مجموعة تكنوقراط استشارية من كوادر عدن وحضرموت -هكذا بالنص- ومثيلا لها من مؤسسة الجيش والأمن الجنوبي السابق لمساعدته في اتخاذ خطوات البناء الصحيحة للدولة المرتقبة.

ما عدا ذلك لن يرى اللواء عيدروس سوى الذباب الإلكتروني الذي يمجده حتى يعميه عن الرؤية الحقيقية بما يشبه ما كان في السبعينيات حول سالمين والجموع الغفيرة المرددة (سالمين نحن اشبالك وافكارك لنا مصباح) ثم صار بعض الهاتفين بذلك من قتل سالمين.

أما المعادون للانتقالي ليس من باب النقد البناء وإنما لإسقاط تجربته تماما وهم يمثلون أجندة سياسية متربصة.

بينما يفترض أن يكون الانتقالي في منزلة بين المنزلتين بشرط عودة الوعي إليه بهيكلة جديدة ليس بنفس وروح الدولة البيروقراطية قبل أن تأتي هذه الدولة، وإنما عن طريق الالتحام بالمواطنين وتقنين المال ليصب في إصلاحات اجتماعية والخروج من حال الوظيفة إلى العمل الطوعي المجرد وتخفيض حالة القوالب الجامدة في البنية الأساسية للانتقالي التي أصبحت أدوات لاستلام الرواتب بينما العمل الثوري لا يحتاج إليها ثم البرهنة على حفاظه على الجنوب وأرضه وإشراك الكل معه دون تفريط بما اكتسبه شعبنا خلال مسيرته السابقة وإرساء الحريات والمواطنة المتساوية والديمقراطية كحامل سياسي واجتماعي للوصول إلى الوعود المقطوعة قبل أن تتبخر نهائيا.