يعيش الجنوب العربي اليوم بين إرث ماضٍ مليء بالتحديات والإخفاقات وبين ورؤية مستقبلية تسعى إلى تجاوز ذلك الإرث، مما يخلق مشهداً سياسياً واجتماعياً متجدداً، وهنا يبقى السؤال الكبير:
هل يتمكن شعب الجنوب العربي من تحقيق استقلاله الثاني واستئصال إرث اليمننة بشكل كامل؟ وهل سيستطيع بناء دولة مستقرة تلبي تطلعات شعبه؟
للإجابة على هذه الأسئلة لا بد لنا من استحضار شيء من التاريخ.
- اليمننة وصراعات الاستقلال الأول
لا يخطئ القارئ المتفحص للتاريخ السياسي الحديث للجنوب العربي لحجم التأثير داخل الأوساط السياسية في الجنوب، ودور "اليمننة" في مرحلة معقدة بعد 30 نوفمبر 1967م من محاولات دمج الجنوب العربي مع اليمن، التي تسربت إلى الجنوب في ظل سياسات ومواقف إقليمية ودولية خلال مرحلة ما بعد الاستعمار.
من المؤسف أن كثيرا من مسؤولي مرحلة الاستقلال الأول لم يدركوا جيداً أن اليمننة لم تكن مجرد مشروع سياسي، بل كان أيضاً مشروعا استعماريا يمنيا جديدا باسم القومية والوحدة وكان سبباً جوهرياً للانقسامات الداخلية والصراعات التي أنهكت الجنوب لعقود، فبينما يؤكد اليوم من هؤلاء المسؤولين أنهم كانوا يحلمون بمشروع قومي أكبر بعيد من الواقع، يرى آخرون أنهم أدركوا خطأهم في تقدير الخطر اليمني، وأن أي مشروع مستقبلي للجنوب يجب أن يكون خالياً من تأثيرات اليمننة بعد التجربة الفاشلة والكارثية للوحدة مع اليمن، وأن يُبنى على رؤية واضحة تركز على مصالح الجنوب وشعبه فقط.
هذا الدمج السياسي القسري لليمننة في الجنوب، وفقاً لمن عاش تلك الفترة عن قرب، أدى إلى صراعات داخلية حادة في الجنوب، وخلق حالة من الانقسام الدائم بين النخب السياسية، مما أثر بشكل كبير على الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة.
- الاستقلال الثاني: فرصة لإعادة البناء واستعادة الهوية
ناضل الجنوبيون ومازالوا إلى اليوم يسعون إلى تحقيق ما يُعرف بـ "الاستقلال الثاني"، وهو مسار سياسي جديد يهدف إلى استعادة كيان دولة الجنوب العربي واستئصال كل مظاهر وآثار اليمننة التي خلفتها السياسات السابقة، تأتي هذه الدعوات في سياق مطالبات شعبية واسعة بإعادة بناء دولة الجنوب على أسس تظهر هويته الثقافية والسياسية المستقلة.
لم تتوقف الدعوات السياسية والاجتماعية لاستعادة الهوية الجنوبية في الجنوب العربي منذ أمد بعيد، وصلت ذروتها في الثورة الجنوبية السلمية بعد 1007م، ومع تزايد الوعي السياسي بهذه الحقيقة أصبح هناك كذلك إدراكاً متزايداً بأن " اليمننة"، التي تسربت إلى الجنوب خلال مرحلة الاستقلال الأول، كانت مشروعا استعماريا لإجهاض مشروع الدولة الجنوبية الوطنية وأحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى صراعات سياسية متكررة، وأسهمت بشكل كبير في سقوط دولة الجنوب.
التطورات السياسية في الجنوب العربي تنبئ بأنها دخلت طريقًا لا مخرج منه إلا تحقيق الاستقلال وبناء الدولة الاتحادية الجنوبية، حيث إن مستقبل هذه المنطقة قد يصبح نموذجاً للتغيير السياسي والاستقرار في المنطقة بأسرها، لكن ذلك لن يأتي ولن يتحقق إلا باتفاق كل القُوَى الجنوبية على شكل وهوية الدولة والنظام السياسي التي يجب أن تقوم على القواعد ومفاهيم النظام الدولي، حيث تحترم فيه حقوق الإنسان والانفتاح على العالم وأن يكون الإنسان الجنوبي هو محور ومركز كل السياسات الداخلية والخارجية.