"في اللحظة التي تبدأ فيها ساقاي في التحرك يبدأ تفكيري في التدفق" . هكذا كتب الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو في مذكراته . هذه الكلمات - كما أرى - تختصر مسافة طويلة من علم النفس والفلسفة وحتى الرياضة، وعوالم الإبداع من آداب وفنون وابتكارات، وغير ذلك من تجليات الفكر الإنساني على مر العصور . تُرى أية علاقة هذه التي تربط بين التفكير والمشي؟ وهل صحيح أن المشي يحفز خلايا الدماغ ويستثير القرائح؟ وبالتالي ربما يكون هو أحد الأسباب أو الدواعي المرتبطة بالكتابة الإبداعية ؟ دراسات كثيرة أجريت حول هذا الموضوع، وأعطاها المتخصصون من الاهتمام ما جعلهم يخرجون بنتائج تعزز قناعاتهم، وحقائق علمية تؤكد صحة مقولاتهم التي تربط إيجاباً بين المشي والتفكير . أما أدبياً فالأمثلة على ذلك غير قليلة، ونستطيع إيجادها في سير الكتّاب والأدباء والشعراء الحياتية، وأن نلمس في كتاباتهم أثر المشي، سواء بين أحضان الطبيعة الهادئة، أو في شوارع المدن الصاخبة، وكنت قد قرأت في سيرة الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز ذي الشهرة العالمية الواسعة، أنه بدأ المشي في شوارع لندن وهو في الثانية عشرة من عمره في ساعات النهار والليل، حين اضطر للعمل والإنفاق على أسرته، وقد تسربت هذه المعرفة المتعمقة بالمدينة فيما بعد إلى كتاباته دون وعي، كما قال ديكنز نفسه : "أعتقد أنني أعرف هذه المدينة الكبيرة وكل شخص فيها". من هنا نستطيع الجزم بإيجابية أثر المشي على عطاء ديكنز في مستقبل حياته الأدبية.
هذا ما رحت أُعمل الفكر فيه، لأنني ظللت أعتقد بضرورة الهدوء لالتماس الصفاء الذهني، والابتعاد عن كل ما يعكر لحظات البوح الإبداعي والكتابة والتأليف، فما من رغبة ملحاح إلى ذلك انبثقت في نفسي فيما مضى، إلا وكنت أبحث معها عن السكينة والهدوء، ومنصرفاً عن كل ما يقلق الفكر ويشتت الذهن، ويذهب بأفكاري مذاهب غير محمودة المسالك، وغير التي أتوخاها من وراء جريان القلم على الصفحات.
ووجدتني أذهب بذاكرتي إلى بعض تلافيف الزمن الماضي وركام السنين الخوالي، وأجهدت تفكيري فيما يمكن أن يؤكد لي الطرح الذي يربط بين ثلاثية المشي والتفكير والكتابة، بالنظر إلى تجربة خاصة بي مرتبطة بحكايتي مع القلم، وما أفرزت تلك الحكاية - خاصةً - من نتاج شعري أعتز به، كونه في سماته وملامحه الدالة عليه، يعكس جوانب من حياتي وشخصيتي، وآرائي ونظراتي إلى الحياة، وعلاقاتي مع المجتمع بكل ما فيه من تحولات وتناقضات وطبيعة إنسانية معقدة ومتغيرة . فتمكنت خلال رحلة الذاكرة القصيرة من استدعاء بعض المواقف، كان للمشي فيها عندي حافز للتفكير الإيجابي، الذي نتج عنه فيما بعد نتاج شعري وأدبي، أعني بذلك المشي غير المخطط له، والمشي المقصود في ذاته على السواء، ليس فقط للتنزه أو الترويح عن النفس، ولكن أيضاً لإرسال الفكر في فضاءات وأمداء تأملية بعيدة.
كنت ذات مرة أستمع إلى حديث إذاعي لأحد الشعراء الكبار، وهو بالمناسبة شاعر عبقري، وفنان ملهم لا يشبه في شعره وفنه وإبداعه إلا نفسه، سمعته يتحدث عن حكايته مع الشعر، ويقول في جانب من حديثة إن المشي بالنسبة له عادة يومية منذ أن كان طالباً في المرحلة المتوسطة، كما أنه ليس للشعر عنده أوقات محددة، فقد يوافيه وهو مع أصدقائه أو بين أهله وذويه، ويحدث أحياناً أن ينسجم بنظم أبيات من الشعر وهو يقود سيارته، أو قاعد مثلاً في مقهى أو في مكان عام، حتى إنه كما ذكر نظم مرة قصيدة كاملة في صالون حلاقة، لحظة كان الحلاق يحلق له رأسه، والشارع من حوله يصطخب ويعج بالباعة والمارة وتُسمع فيه أصوات السيارات وأبواقها، ولكن مع ذلك فهناك في رأيه ضرورة وأوقات محببة تتطلبها ممارسة الكتابة والتأليف، وهو شخصياً يلتمسها وقت السحر عند الفجر.. هناك كما قال يجد صفاءً ذهنياً ومجالاً رحيباً لقول الشعر.
إن الحالة الشعرية بوصفها شحنة نفسية وفكرية تتلبس الشاعر في لحظات لا يختارها هو غالباً، وتملؤه بطاقة روحية تموج بالهواجس والإلهامات والتأملات، هذه الحالة العجيبة تبقى تعتمل في دواخله وفي مكامن الخلق لديه، وتفيض متدفقة تبحث عن لحظة تفريغ وخروج من ظلمات القلق إلى فضاءات الورق، فربما نفذت وانطلقت إلى تلك الفضاءات البيضاء بسهولة، وحلقت فيها بحرية ما شاء لها التحليق والسمو، وجابت أمداءً رحبة ومديدة، بسطت في اتساعها أجنحة الإبداع المدهشة، وربما انحبست تلك اللحظة الأثيرة في أعماقه، وظلت في صدره جائشة مضطربة، لايعرف متى وأين يطلقها خارج أسوار ضلوعه وأحشائه إلى رحاب الحياة، وهذه لعمري من أصعب اللحظات التي يمر بها الشاعر الحق، ويعاني خلالها ما يمكن أن نسميه هنا ( المخاض ) العسير، الذي يسبق لحظة الانفجار الإبداعي المنتظرة، ولذلك فهو يبحث عن أفضل الطرق وأجمل الظروف المساعدة على هذا الانفجار قبل حدوثه، وحتى بعد أن تسمع الدنيا دويَّه الهادر وترى وميضه الساحر.
مجلة الشرق الثقافية - ديسمبر