في السياسة، كما في الحياة، هناك فرص لا يمكن تفويتها وأوهام يجب الحذر منها، فمنذ 7 أكتوبر 2023، ضربت زلازل سياسية وعسكرية المحور الإيراني، فغيرت قواعد المنطقة الشرق أوسطية وأنتجت حقائق جديدة على الأرض، اليوم، لم يعد السؤال عن سقوط النفوذ الإيراني في المنطقة، بل عن كيفية استثمار هذه اللحظة التاريخية.
على طاولة الواقع، هناك خياران: لبنان، الذي يقف على أعتاب فرصة نادرة لإعادة تشكيل دولته بعيدًا عن هيمنة حزب الله، وسوريا، التي لا تزال غارقة في دوامة العنف، حيث تسقط سلطة قديمة دون أن يبرز بديل وطنيّ حقيقيّ. السياسة الواقعية تقتضي عدم الرهان على صيد طير يقف على أغصان الشجرة، بل التقاط الصيد الذي بأيدي شعبٍ عانى طويلًا من عقليةٍ ترى في لبنان أنّه كُرةٌ مُلتهبةٌ بين فصائل فلسطينية حينًا وسورية أحيانًا أُخرى.
لبنان اليوم ليس لبنان ما قبل 7 أكتوبر، التحولات العميقة التي شهدها الإقليم، من الضربة التي تلقاها المشروع الإيرانيّ إلى تراجع النفوذ العسكريّ لِحزب الله، جعلت اللحظة سانحةً لِفرض واقع جديد. مقتل حسن نصرالله، أو حتى رضوخ حزب الله تحت الضغط الإسرائيليّ عسكريًا والأميركي سياسيًا، يفتح الباب أمام إعادة رسم المشهد اللبنانيّ بِالكامل.
هذا يعني شيئًا واحدًا قاطعاً: لا يُمكن ترك الفرصة تمرّ، القرار 1701 لم يكن يومًا أكثر قابليةً لِلتنفيذ مما هو عليه الآن، إنهاء سيطرة حزب الله على الجنوب اللبنانيّ لم يعد مجرّد مطلب إقليميّ، بل ضرورةٌ لبنانيةٌ تفرضها وقائع الداخل قبل أيّ شيء آخر، السلاح يجب أن يكون بيد الدولة، والدولة وحدها، وأن يتحوّل الحزب إلى حزب سياسيّ بِدون أيديولوجيا دينية أو مذهبية، حزب سياسيّ بِمعايير الدولة الوطنية التي يخضع كُلّ ما فيها لِقانون المساواة والمواطنة لِلجميع.
لكن المسألة لا تتوقف عند تجريد حزب الله من سلاحه، بل تمتد إلى إعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني من جذوره، فنظام المحاصصة الطائفية الذي قام على اتفاق الطائف عام 1989 لم يعد قابلًا للحياة، لقد كان هذا النظام سببًا رئيسيًا في تحويل لبنان إلى ساحة نفوذ خارجي، حيث تتحكم القوى الإقليمية بمصير البلاد عبر وكلاء طائفيين، اليوم، لا مجال لإصلاح شكلي، بل يجب الدفع نحو نظام وطني ليبرالي قائم على المواطنة، وليس على الانتماءات الطائفية.
وصول جوزيف عون إلى الرئاسة يمثل فرصة ذهبية لا بد من البناء عليها، فرجل المؤسسة العسكرية الذي حافظ على حياد الجيش وسط العواصف السياسية قد يكون المفتاح لإعادة توجيه لبنان نحو مستقبل مختلف، المطلوب الآن هو تكوين خارطة طريق واضحة تبدأ بصياغة قانون انتخاب يقوم على أسس المواطنة لا المحاصصة والانتماء إلى لبنان لا ولاء لغيره، من هنا تنتهي دورة الفشل السياسي الطويلة تاريخياً، وتعيد لبنان إلى موقعه الطبيعي كدولة ذات سيادة لا كمنطقة نفوذ لطهران أو غيرها.
مقابل الفرصة المتاحة في لبنان، تبدو سوريا وكأنها مستنقع لا قاع له، فمن يظن أن سقوط نظام بشار الأسد هناك سيؤدي إلى ولادة دولة وطنية حديثة يكرر الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون بعد 2011، فالمشكلة لم تكن يومًا في إسقاط الأسد بقدر ما كانت في غياب البديل، وهذا البديل، حين ظهر، كان مجرد نسخة أخرى من عقلية الاستبداد، لكن بثوب أيديولوجي مختلف، أحمد الشرع أو أبومحمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي أصبح عمليًا “رئيسًا” لسوريا في إدلب، لم يجد أفضل من صلاة الفجر ليخاطب شعبه المفترض، وكأن سوريا أصبحت ملكًا حصريًا لأتباعه.
هذا الخطاب ليس عابرًا، بل هو امتداد لعقلية الجهاد السني التي نشأ عليها أحمد الشرع (الاسم الحقيقي للجولاني) في تنظيمات القاعدة والجهاد العالمي. إنها ذهنية لا تؤمن بالمواطنة، ولا تعترف بالأقليات، ولا ترى الدولة إلا من منظور ديني متشدد.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى: سوريا لم تسقط في الديمقراطية، بل سقطت في فخ الأصولية من الجهتين، نظام مستبد ومعارضة لا تقل عنه استبدادًا. هذا يعيدنا إلى التجربة العراقية بعد 2003، حين أدى سقوط نظام صدام حسين إلى سنوات من الفوضى والعنف الطائفي، دون أن ينتج نظامًا وطنيًا مستقرًا.
إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل قد قررتا إعادة رسم المشهد في لبنان، وإذا كانت إيران تعيش مرحلة تراجع إستراتيجي، فأين العرب من كل هذا؟ المنطق السياسي يقول إن الاستثمار في لبنان الآن أكثر جدوى من انتظار تحول مجهول في سوريا.
المطلوب ليس الاكتفاء بالتصريحات، بل دعم مباشر لعملية إعادة بناء لبنان سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. العرب اليوم أمام خيار واضح: إما ترك لبنان رهينة للميليشيات، أو الدفع نحو دولة ذات سيادة حقيقية.
أما سوريا، فهي في حاجة إلى سنوات طويلة قبل أن تتمكن من الخروج من دوامة العنف، تمامًا كما حدث مع العراق بعد 2003، فالواقع يقول إنه لا يمكن للعرب إعادة بناء سوريا الآن، لكن يمكنهم إنقاذ لبنان من أن يتحول إلى نسخة أخرى منها، فالسياسة ليست قائمة على الأمنيات والخيالات العاطفية، بل على استغلال الفرص، واليوم، هناك فرصة تاريخية لإعادة لبنان إلى موقعه الطبيعي، وهذه الفرصة لن تنتظر أحدًا، فسوريا ستبقى ساحة مفتوحة للصراعات لسنوات، ولبنان قد يكون على مفترق طرق إما أن يتحول إلى دولة طبيعية، أو أن يغرق في فوضى تشبه ما حدث لجيرانه.
لا أحد يعرف متى سيتم اصطياد الطير من على الشجرة السورية، لكن لبنان اليوم هو الفرصة المتاحة، والخيار الأكثر واقعية، ومن يراهن على غير ذلك، فإنه يكرر أخطاء الماضي، ويفرط في ما يمكن تحقيقه لصالح ما قد لا يأتي أبدًا.
عن العرب "اللندنية"