الـدوامة

> «الأيام» د. علي عبدالكريم :

> في غمرة الأحداث المتتالية في بلادنا في الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، ينغمس الجميع في دوامة لا نهاية لها، وفي محاولة لإعادة تكوين الصورة المتناثرة الأشلاء للجوانب التي أشرنا إليها، وكلّ يقيم الأمور وينظر إليها من الزواية التي تتفق ورؤيته للأحداث وللسيناريوهات المحتمل أن تتطور إليها الأمور لوضع معالجات صائبة للمسائل والأمور الآتية:

الإصلاحات السياسية ومتطلبات تحقيقها، إصلاحات تفضي إلى تبني أمور تمس جذور المشاكل المتراكمة لفترة ما بعد الوحدة وتداعيات حرب صيف 94م.

الأزمة الاقتصادية، وتبني سياسات ومعالجات تكفل سبل الخروج من دوامة هذه الأزمة المستحكمة.

خطة التنمية الاقتصادية للأعوام 2005-2010م، وما يرتبط بها من موازنات ومعالجات لإشكالية العلاقة بين معدلات الأسعار المتطايرة ومستويات الرواتب والأجور الراكدة إلا بنزر يسير.

الكل مستنفر، حوارات ساخنة بين أطراف المشهد السياسي اليمني، فرقاء درجات التباين وعدم التكافؤ شاسعة ونقاط الحوار يشوبها الكثير من المآخذ والعيوب، والتي تعود في أصلها إلى ما علق بجسد العمل الحزبي من أمراض سواء تعلق الأمر بحزب الأغلبية والقوى المتحالفة معه أو بأحزاب المعارضة ومشاكلها، بينما الشارع اليمني من أقصاه إلى أقصاه مشغول حتى أذنيه في متابعة ومناقشة ما يعتصر حياته من مشكلات وهموم، والمتمثلة بعدم الاستقرار سياسياً وتعقد حياته اقتصاياً، وانعدام الرؤية أمام طريق أجياله مستقبلاً، حيث الأسعار تجري الى لا استقرار لها، والبطالة تتزايد، والركود آخذ في الانتشار، والرواتب والأجور حدث عنها ولا حرج، المواطن يدرك بسليقته وفطرته أن مظاهر النهب والفساد هي مشكلته الحقيقية، وأنه بدون معالجات جذرية لمظاهر الأزمة الاقتصادية المستحكمة، فلا أمل في الوصول إلى نوع من تعادلية الأسعار والأجور، وتحقيق نوع من الانفراج، تلك عملية تتطلب عقلية ونهجاً جديدين قوامهما شفافية مطلقة في الحصول على المعلومة، وحق في المشاركة الفعلية في القرار السياسي، ولكن ما نلاحظه للأسف الشديد بعيد عن ذلك الأمر مما جرى تغير في الشكل، ولم يتغير في الجوهر شيء، حيث يظل:

- القائد، رئيس الحزب ، الأمين العام، الشيخ، رئيس المؤسسة هو القائد والملهم والموجه، والفلتة التي قلما يجود الزمان بمثلها.

- حالة أبدية الاستيطان الوظيفي في الهيئات والمراكز المتقدمة لمؤسسات الدولة المدنية والحزبية، وهذه الحالة هي الطابع العام السائد وأي محاولة أو دعوة للتغيير أو للمساس بهكذا وضع دونه الهلاك، تلك مناطق تابو محرم الاقتراب والتصوير عندها. تحدث ما شئت عن تداول السلطة بعيداً عن محاولة تغيير التابو.

- وحيث تظل الظاهرة المنافية للديمقراطية المعروفة باسم سيادة حزب الأغلبية، تلك الأغلبية التي تضع صناعة هندسية مالية، مناطقية، نفعية، سيادة تتكاثر حولها الأعداد المنضوية لتتحول إلى حالة تضخمية تشدها إغراءات السلطة من وظائف ومال سائب، إنها حالة أغلبية شبيهة بكرة الثلج تزداد تضخماً وتورماً كلما تدحرجت، وخطورة هذا التضخم تكمن في تحوله إلى حالة نرجسية تتغنى بأغلبية تشكلت خارج قنوات العملية الديموقراطية، واستحوذت بالتالي على كل مفاصل إدارة الدولة لتحوله هو الآخر إلى جهاز بيروقراطي معيق لكل التطلعات الديمقراطية، ولتصيب بالتالي حركة المجتمع بشلل تام ولا سبيل أمام الآخرين إلا الانضواء تحت لواء حزب الأغلبية والقول بما تراه وتقرره، وهذه هي مشكلة ما يسمي بديمقراطية الاغلبية الشكلية التي نعيشها، والتي تقرر وتمرر كل شيء داخل الهيئات.

- وحيث أحزاب المعارضة تعيش حالة من الهوان والضعف، تعيش داخل حلقات الذكر الخاصة بمشاكل وتعقيدات حياتها الداخلية، وأزمة علاقتها بالشارع والمواطن وعدم قدرتها على التقاط الإشارات التي ينصح بها الشارع السياسي، بحيث تؤدي حالة الخمول والجمود الحزبي المخنوق بقله الموارد من جانب ومضايقات حزب الأغلبية، ومشاكل ذاتية موضوعية تخص قيادات الاحزاب ذاتها، ذلك كله للأسف يساهم ويعتبر مسؤولاً عن حالة الخمول وسكوت الشارع السياسي، وإلا كيف يحق لأي حزب أو مؤسسة مدنية الادعاء أنها تمثل الشعب، وتعبر عن مشاكله وطموحاته؟

وقفة
والصورة على النحو الذي أشرنا، يصبح الأمر مدعاة للتفكير العميق في ابتكار وسائل ديموقراطية ترتكز على مشروعية المساهمة الحقيقية للمجتمع بقواه الحية أفراداً وجماعات، وحتى دون وساطات حزبية متكلسة بطابعها وعقليتها التي لا تزال تنظر للأمور من ثقب المحافظة على مواقعها.. المسألة في حاجة إلى جهد مجتمعي ثقافي علمي، وبقراءة سياسية ناضجة تفكك تعمق الأزمة الهيكلية التي نعيشها على المستوى السياسي والاقتصادي، ووفق منظور استراتيجي ورؤية تتسم بالموضوعية تسلم بأن الوطن للجميع، موارد ومسؤوليات، وبسقف أولويات تتماشى مع الضرورات الأكثر أهمية، وخلال هذه الوقفة التاريخية تطالبنا صياغة استحقاقات بناء المستقبل بما يلي:

- في الجانب السياسي: إعادة قراءة الخارطة السياسية في البلاد ، قراءة تنطلق من إيمان حقيقي بأن غياب الحريات وانعدام استقلالية المؤسسات الحزبية والمدنية تمثل نقطة الارتكاز الحقيقية لإعادة تصحيح الصورة، بعيداً عن الخوف والتخويف، وبما يكفل حرية العمل والحركة لإطلاق إبداعات المجتمع لحلحلة قضية التمويل اللازم لنشاط هذه المؤسسات، بعيداً عن سيطرة هذا الطرف أو ذاك من الداخل والخارج، وبما في ذلك تمويل الأحزاب من الموازنة العامة، وفي الأول والأخير يحق للمجتمع المطالبة بالفم المليان بضرورة الإفراج عن المعلومات الدقيقة عن موارد البلاد، وكيفية أيلولة إنفاقها، مع ضرورة خضوع كل التصرفات المالية للمساءلة والتدقيق المستمر حتى تستقيم الأمور وتهدأ النفوس المشرئبة والمتطلعة دوماً للاستحواذ أو لشراء الذمم، حيث تتكاثر روائحها كلما كانت بعيدة عن المساءلة والمحاسبة، عبر إخراج ملفات أجهزة الرقابة والتفتيش المالي وبيانها للرأي العام إذ أن كل مليم يبدد هو جزء من ثروة الوطن، للجميع الحق في معرفة مصيره وأين ومتى وبمقتضى ماذا صرف واستهلك .. تلك ضرورة لا بد منها.

- في الجانب الاقتصادي: حيث تبدو الصورة باهتة، فزمام الأسعار منفلت حتى أخمص قدميه، وتعادلية الأسعار مع الرواتب والأجور أشبه بأحاديث ألف ليلة وليلة، والباحث عنها في ظل أوضاعنا الحالية كالباحث عن العنقاء أو الخل الوفي أو كمن يحاول تمرير الفيل الهندي في إبرة معاوية. مشكلتنا الاقتصادية في حاجة إلى معالجات جذرية في كافة مقاطعها ولم تعد تجدي معها وصفات صندوق النقد الدولي، تلك الوصفات التي ثبت فشلها في أكثر من بعد له مقومات اقتصادية أكثر متانة مما لدينا.

- اتساع الهوة والفجوة بين الموارد المتاحة وتعدد الاستخدامات وتصاعد النفقات، وبما يفوق كثيراً قدرة الإيرادات على تغطيتها، ذلك يعمل على تراكم العجز مما يتطلب البحث عن أساليب مستجدة لتقليص وإلغاء كل نفقة غير ضرورية، وعبر تحليل دقيق لعناصر الإنفاق وضبط اتجاهاته، وكسر حلقات الفساد المالي والإداري في مواطنه ومواقع نفوذه وفق خطط تتبنى أولويات وتحارب تبديد وتبذير الموارد الشحيحة، وتوجيه إنفاقها على الاحتياجات الأكثر أهمية بدلاً من إنفاقها على النزوات المتغطرسة وعلى سفه الاستيرادات البذخية، والميل نحو تلك الاشياء النادرة وتجميد جزء كبير من رأس مال المجتمع في أشكال تخلق المزيد من حالة التضخم، ولا تولد نواقص ادخارية يعاد استثمارها (الاتجاه للبناء البذخي للقصور والمباني الحكومية الفارهة وتأثيثها غير المتناسب مع أوضاعنا الاقتصادية، الاحتفالات والاستعراضات، شراء السيارات ..إلخ).

نقول حان الوقت كي تنتظم جهود المجتمع للاستغلال الجيد للعوامل الإنتاجية المتاحة التي لا تعود إلى نقص في الطلب عليها، ولكن إلى جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك استمرار تعزز حالات الاختلالات الهيكلية التي تعوق الكثير من الجهود الاستثمارية كوسيلة فاعلة لامتصاص جزء من ظاهرة البطالة المتفشية لدينا، إن الأمر يدعو بصراحة لمخطط سليم يفضي إلى:

- كبح جماح تضخم تكاليف العمل الحكومي.

- كبح جماح الإنفاق التبذيري ومظاهر الإنفاق الاستهلاكي الترفي في المجال العام والخاص.

- العمل على ابتكار وسائل عملية لتنمية أوعية إدخارية متعددة كأحد مصادر التمويل.

- الاستخدام العقلاني الرشيد للموارد.

- الخروج من حالة التشبع الكلامي المنمق عن ازدهار مناخ الاستثمار في البلاد إلى مواجهات حقيقية مع العوائق :

الإدارية والمالية- القانونية - كلفة الخدمات - الشريك المحلي- البنية التحتية - القاعدة المعلوماتية - مشاكل فنية وأمنية أخرى -حل مشاكل الملكية وإيقاف مسلسل البسط والمنح والهبات من المال العام.

- الدراسة المستمرة لخطورة عدم استقرار أسعار صرف العملة المحلية والتغيرات الفجائية المتسارعة في أسعار السلع والخدمات، وبشكل يؤثر سلباً على أحوال الاستثمار من جانب، وسحق القيمة الحقيقية لرواتب وأجور الغالبية من موظفي الدولة، وباقي القطاعات، وأثر ذلك على الطلب/ العرض.

والحل:
بالتأكيد ليس الحل في التبني المطلق لسياسات صندوق النقد الدولي، تلك السياسات الهادفة بدرجة أساسية إلى تحقيق نوع من التوازن المالي، وعلى حساب الكثير من احتياجات المجتمع، حيث تدعو الدولة لرفع يدها وترك الأمور تتحرك وفقاً لمشىئة السوق، رفع الدعم، تحرير حركة الأسعار انطلاقاً من أن الدعم لا يذهب لمستحقيه، ومن ناحية أخرى، فالدعم ضار بمسار التنمية ويحمل الموازنة نفقات لا طائل منها.

نعقب على ذلك القول بما يلي:

-لم يثبت بدرجة قاطعة صحة النهج الذي تدعيه فتاوى الصندوق، فتجارب كثير من البلدان تقول عكس ذلك، وكل تجارب الصندوق في العديد من البلدان غالباً ما كانت نتائجها مصاحبة بنوع مدمر من الاضطرابات الاجتماعية تكلف الاقتصادات الوطنية المزيد والمزيد، وغالباً ما تعود القرارات إلى جادة الصواب للبحث عن وسائل أكثر ملاءمة من تلك التي يتبناها ويدعو لها الصندوق.

- إن طبيعة الإنفاق العام المتزايد من قبل الدولة وأجهزتها البيروقراطية والمتسمة بعدم الحركية، وعدم الكفاءة في إدارة واستخدام الموارد تعتبر أكبر ملتهم للموارد والمبدد لها، أي هي المسؤولة بدرجة أساس عن حالة التضخم.

- من جانب آخر نقول إن عمق الاختلالات البنيوية بين الموارد والنفقات التي قد تحدث سيكون من المقبول الحديث عنها لو أنها أتت نتيجة أو لنتائج عمليات تنموية حقيقية نلمس آثارها من الواقع الاجتماعي (تحسن ظروف المعيشة، تدني نسب البطالة)، ولكن ما نلمسه ويشير إليه غيرنا حتى ما أكد عليه مصداقاً لما تقول إشارات رئيس البنك الدولي السابق، إن عمق الاختلالات عائدة للأسف للتبذير في الموارد، وسوء إدارتها وتنامي حالات الفساد المالي والإداري، وعدم وجود مرونات قطاعية تصحح مسار العرض والطلب تجاه الأسعار وتغيراتها نحو الأعلى للأسف، والتي تقضي على أثر ومفعول أية زيادات في الراتب والأجر في إطار من حرية السوق وحركية العرض والطلب في سوق مشوهة تنقصها الكثير من عناصر الاستقرار والانضباط، وتتحكم في مصائرها قوى احتكارية فتاكة ومافيات ما أنزل الله بها من سلطان .. لنرَ ما يقوله أحد الاقتصاديين الأمركيين البارزين في هذا المضمار، إنه الاقتصادي الكبير ج. غالبرايت، إذ يقول:

«إن العملية الاستثمارية المتروكة بين يدي السوق والطلب ونظام توزيع المداخيل القائم يمكن أن يؤدي إلى أن قسماً كبيراً جداً من الاستثمارات يمكن أن تتوجه نحو البناء السكني الفخم، وإنتاج واستيراد البضائع الاستهلاكية المرتفعة الثمن من أجل إشباع رغبات الأثرياء، وبذلك تكون الموارد الشحيحة قد أنفقت على استيراد الكماليات ومواد الترفيه». وهو ما يحدث لدينا.

ختاماً .. مشكلتنا الاقتصادية بوجهها السياسي في حاجة إلى معالجة جذرية تستأصل الداء من جسد هذا الاقتصاد الهش العليل، وبأساليب فعالة ومؤثرة، وكما يقول المثل المصري العامي: «الورم.. عاوز مشارط، مش مراهم».

نقول أيضاً: رحمة الله عليك يا فهد بلان، فقد ظللت تصرخ وتعيد القول: «إن التألم في الكبد»، ولكن يا سيدنا الراحل قد أصبح التألم والتورم في سائر أنحاء الجسد وليس في الكبد وحده .. ترى هل سيستمع إليك الطبيب المداوي .. ربما!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى