قصة قصيرة بعنوان (صانع النعوش)

> «الأيام» ياسر عبدالباقي :

> لم يكن العم عطا الله النجار البسيط يدرك ذات يوم أن محله الصغير سيكبر ويتسع، وأن عمّاله سوف يزداد عددهم إلى ثلاثة غير ابنه الأكبر.

جاء إلية اليوم رجل يبكي، وبيده بضع ورقات مالية:

- لا أملك سوى هذا.

ووضع الورقات في كف العم عطا الله وأجهش باكياً.. أعاد المال للرجل وقال:

- كم عمره؟!

رفع عينيه إلى السقف، وتمتم بكلمات مختلطة بالدموع:

- لم يبلغ محمد بعد السادسة عشر.. وجد اليوم مذبوحاً كالنعاح.

وبكى..!

- إنا لله وإنا إليه راجعون.

اليوم باع سبعة صناديق، ذات مرة باع عشرين صندوقاً، الأمر موجع ومؤلم بالنسبة له. الليلة لا تختلف عن بقية الليالي الماضية.. حجْر زوجته أفضل مكان يضع رأسه فيه، ثم يبكي كالأطفال حيث تواسيه زوجته، وتربت على رأسه.

- النعوش تزداد كل يوم يا أم نديم.

- ربنا كريم.. ربنا كريم..

وقالت أيضاً.. وقد ترددت في قولها:

- ابن جارنا نصْر لم يعد منذ ثلاث أيام من المعسكر.

رفع رأسه نحوها، وتنهد بألم: يا الله.. لقد قلت له أن لا يرسل ابنه الوحيد إلى المعسكر.

- وماذا يعمل؟.. حالتهم تسوء كل يوم!

- طلبت منه أن يعمل معي.

ثم وضع رأسه على حجْرها مردداً: رحمتك يارب.. رحمتك.

ذات صباح.. وقف نصر أمام باب محل العم عطا الله، جثته الكبيرة حجبت ضوء الشمس، رفع عطا الله رأسه، وبقيت يده مرفوعة إلى الأعلى ممسكة مطرقته، والمسمار محشور بين أصابع يده الأخرى.

- جاءني اتصال قبل قليل من مدير المستشفى، طلب مني أن أحضر لأستلم جثة ابني.

سقطت المطرقة من يد العم عطا الله.. تقدم بخطوات تعبة نحوه.

قال نصر دون أن يهتز: السيارة تنتظرني.. سآخذ معي صندوقاً.

ذات ليلة.. الأجراس تقرع بحزن.. العراق لا ينام.. أصوات المآذن تزيده حزناً وألماً لم تصمت أبداً.. عطا الله النجار البسيط صانع الكراسي قديماً.. صانع النعوش حديثاً، يضع رأسه على حجر زوجته ويبكي، كما يفعل كل ليلة.

تحدق زوجته في صورة مريم. ثم ترسم علامة على صدرها، وتتنهد بألم.

- منذ أيام وأنا أصنع نعشي!

- ماذا تقول يارجل؟!

تابع وكأنه لم يسمعها: أردت أن يكون صندوقاً مختلفاً كبيراًَ.. قوياً قادراً على حملي.

تغمض عينيها لتمنع فرار الدمعة: لاتقل ذلك.. إنك تؤلمني!

تفر الدمعة من عينيها.. حين يرفع رأسه نحوها.. تسقط على عينيه وتمر بسرعة عبر وجنته لتسقط على الأرض، وتتلاشى: أشعر أن أجلي قريب جداً.

ذات يوم.. الانفجار الذي حدث منذ دقائق قليلة جعل من صناديق النعوش تسقط أو تتحرك من أماكنها. ركض العمال إلى خارج المحل.. الانفجار يبعد عنهم شارعين، الحرائق التهمت كل شيء في الشارع.

ناداهم عطا الله: حسن .. عزيز.. حارث.. عودوا إلى عملكم.

تمتم ببضع كلمات: ليحمنا الله .. ويحم العراق، ثم راح يحدق بصندوقه أو نعشه، كم مرعب أنت أيها الموت، عندما تتسلل إلينا ببردوة أحياناً، وأحياناً أخرى بألم طرقات المطارق، تزيد من تصدعه، يود أن يأخذه بأسرع وقت حتى لايسمع مرة أخرى طقطقتها التي تذكره بالموت كل يوم، كل ثانية.

جلس على كرسيه القديم الذي صنعه قبل عشر سنوات حين كانت صناعة الكراسي كاسدة وغير مربحة، وراح يتمتم بكلمات مبهمة غير مفهومة، رسم علامة الصليب على صدره.. كان .. وكأنه ينتظر الموت.

- عطا الله.. عطا الله..

ظن أن الموت يناديه، بقي ساكناً ينتظر أن ينزع روحه ببروده كما يشاء.

- عطا الله .. عطا الله

أفاق. فتح عينيه قال كأنه يحدث نفسه: هذا صوت زوجتي.

واقفة أمام باب محله بردائها الأسود الفضفاض، لم يعرفها في البداية، بدا وجهها كأنه بركة ماء.

- ماذا حصل؟

أشارت بارتجاف إلى الشارع.. وقالت بصوت متهتك:

- ابنك ..ياعطا الله .. مات !

ينهض من كرسيه عندما تلفظ ابنك.. ويسقط عندما تلفظ مات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى