عدن مدينة متعددة الثقافات رحلات الصينيين إلى عدن( 1419- 1431م )

> «الأيام» عبد الرحمن عبد الخالق :

> تحتل عدن موقعا استراتيجيا مهما، من حيث كونها تشكل ُقطب الرحى بين الشرق والغرب، لذا كانت على الدوام محط أنظار العالم، ففيها حطت قوافل التجارة رحالها، ومخرت السفن عباب المحيطات صوب مرساها، إما للتجارة أو طمعا فيها، كما حدث من البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز، ناهيك عن أطماع الأتراك والمراكز العربية، وقد أشار صاحب هدية الزمن (1)، أنه جاء في مسالك الأبصار عن عدن أنها أعظم المراسي في اليمن، وأنها خزانة ملوك اليمن، وهي فرضة اليمن ومحط رحال التجار ولم تزل بلد تجارة من زمن التبابعة إلى زماننا هذا، وإليها ترد المراكب من الحجاز والسند والهند والصين والحبشة، مضيفا أن صلاح الدين ابن الحكيم قال: «ولا يخلو أسبوع من عدة سفن وتجار واردين عليها، وبضائع شتى ومتاجر منوعة، والمقيم بها في مكاسب وافرة وتجائر مريحة، ولحط المراكب عليها وإقلاعها مواسم مشهورة ».

ولمكانة عدن التجارية الهامة استوطنتها أقوام وأعراق كثيرة، جاءوها للإتجار، أو طلبا للعمل، أو هربا من ضيم حاكم ظالم. وقد كتب ابن المجاور أن غالب سكان البلد عرب مجمعة من الإسكندرية ومصر والريف والعجم والفرس وحضارم ومقادشة وجبالية وأهل ذبحان وزيالع ورباب وحبوش، وقد التأم إليها من كل بقعة ومن كل أرض وتمولوا فصاروا أصحاب خير ونعم (2).

كما أشار بامخرمة: «وكثُر بها الناس في دولة بني أيوب وتوطنها جماعة من كل فج وحفروا بها الآبار وبنوا المساجد وأقاموا بها المنابر»(3)، وهي فترة سابقة على دولة بني رسول.

ونقل الوافدون إليها والمتوطنون فيها معهم عاداتهم وتقاليدهم، وشيدوا العمران، وأدخلوا حرفا جديدة، ومع الزمن شكلوا جزءا من نسيج سكان عدن الأصليين، فضلا عن تأثير وتأثر الزائرين لها، وقد شكل كل ذلك فسيفساء من البشر، وبرزت أنماط معينة من العمران، والملابس، والمعتقدات ، والعادات ، والعلاقات الاجتماعية، وقد نمط الدكتور عمشوش(4) عــــدن بثلاثة أنماط عامة أسماها: عدن العربية، وعدن الهندية، وعدن الأوروبية، وخلق كل ذلك التنوع مناخات ثقافية متعددة، وقد انعكس هذا الأمر على مجمل العلاقات الاجتماعية لسكانها لتسمها بروح التسامح، والقبول بالآخر والتعايش معه، والتعاطي مع الجديد، والالتزام بالنظام والقانون، وهو سلوك يرتبط أكثر بالفضاء الذي يخلقه البحر، رغم ما عملته المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تاريخيا من تغيرات نسبية في القيم. يقول ابن خلدون في مقدمته: «وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها و بقي ذلك في البدو كما كان والله وارث الأرض و من عليها»، وهذه في نظري ميزة تحسب لهذه الحاضرة، وسمة من سمات المدنية، التي أدخلتها في منعطفات تاريخية مختلفة في مواجهة مع البداوة الغليظة، ومع مختلف العصبيات ومنها القبيلة التي تنظر بعين الاستعلاء إلى كل من لا يرتبط بها برابط .

العلاقات التجارية بين اليمن والصين
تعد العلاقات التجارية بين عدن والصين من العلاقات المبكرة تاريخيا «حيث سافر في العصر القديم عدد كبير من التجار اليمنيين إلى الصين باللبان والمر وعادوا بالحرير والخزف»(5) ويؤكد الإدريسي الذي عاش في القرن السادس الهجري هذا الرأي، حيث يوضح أن علاقة عدن التجارية كانت كبيرة مع الصين بالإضافة إلى الهند بقوله: « ومدينة عدن مدينة صغيرة وإنما شهر ذكرها لأنها مرسى منها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها يجلب متاع الصين » (6).

وتعززت العلاقات بين البلدين تاريخيا على المستويات كافة، واتسمت دائما بالود والاحترام المتبادل، وتحقيق المصالح الفضلى المشتركة بين البلدين .
وبالعودة إلى رحلات الصينيين السبع إلى الدول المطلة على المحيط الهندي الممتدة من 807هـ - 835هـ ( 1405 - 1433م ) سنجد عدن قد حظيت بثلاث من هذه الرحلات التي قاد أسطولها البحار الصيني المسلم تشنج - خه .

الرحلات البحرية الصينية إلى عدن
جاءت الرحلات التي قام بها الأسطول الصيني إلى الدول المطلة على المحيط الهندي بناء على أمر أصدره ينج - لو ( 1403- 1424م ) ثاني أباطرة سلالة منج ( 1368- 1644م ) في 1405م، كلف بموجبه أحد رجال بلاطه الطواشي شنج - هو ( حسب عبد الله محيرز ) بتجهيز الأساطيل ويجند الحشود لاستكشاف المحيط الهندي، وإعلاء كلمة الصين وإمبراطورها على الشعوب ( البربرية ) التي تقع بلدانها على شواطئه، وصحبه - من ضمن من صحبه - مترجمون سجلوا ملاحظاتهم حول أكثر من ثلاثين دولة زاروها كان أبرزهم وأكثرهم تدقيقا وأغزرهم كتابة ( ما - هوان )، وكان هو الآخر مسلما عارفا باللغتين العربية والفارسية(7).

والرحلات من الضخامة بحيث إن الطاقم الذي قاده تشنج خه عام 1405م يتكون من 27800 رجل، منهم الجنود والضباط، ومديرو الدفة والملاحون والمترجمون والكتاب والعلماء في الرياضيات والأطباء وصانعو السفن والطباخون وغيرهم، أما الأسطول فيتكون من 62 سفينة للبضائع والمجوهرات و700 سفينة للخيول و240 سفينة للمؤن و300 سفينة للجنود و100 سفينة حربية، ومعهم كميات هائلة من المنسوجات الحريرية والأدوات الخزفية والحديدية والأقمشة وغير ذلك( 8).

وكانت أول رحلة يقوم بها الأسطول الصيني إلى عدن بقيادة تشنج خه في عام 1419م في عهد الملك الناصر أحمد بن إسماعيل، و يشير عبد الله محيرز (9) اعتمادا على المصدر اليمني ( تاريخ الدولة الرسولية ) إلى أن شنج خه وصل بسفنه إلى عدن في يناير 1419م تقريبا، وبعد ما يقرب من شهر ونصف من وصولهم إلى عدن، استدعاهم الملك الناصر إلى تعز، وقدموا للملك هدية ملك الصين إليه، وكانت هدية فاخرة فيها من أنواع التحف والثياب الكمخات المذهبة المفتخرة والمسك العال، والعود الرطب، والآنية الصيني، أنواع كثيرة قومت بعشرين ألف مثقال، ورد الملك الناصر بهدية مماثلة مما هو متوفر في اليمن وما تعاملت به موانئها من بضائع وتحف، وأهداه من الوحوش المها وحُمُر الوحش والأسود المؤلفة والفهود المؤدبة، وسافروا إلى الثغر المحروس عدن بصحبة القاضي وجيه الدين عبد الرحمن بن جميع في شهر صفر سنة 822هـ. .

وكان قد سبق هذه الرحلة نوع من أشكال التواصل بين اليمن والصين، تعود زمنيا إلى فترة مبكرة من حكم الدولة الرسولية، وتحديدا إلى فترة الملك المظفر يوسف بن عمر ( 647 - 694م)، ثانــــي ملوك بنــــي رسول، حيث أشار الخزرجي (10) إلى أنه يُروى أن ملك الصين حرم على المسلمين في بلده الختان فتعبوا من ذلك وضاقوا، فكتب إليه السلطان الملك المظفر رحمه الله كتابا يشفع إليه في الإذن لهم وأرسل إليه بهدية سنية توافق مراده فقبل شفاعته وأذن لهم في ذلك. أما الرحلة الثانية إلى عدن، فكان خط سيرها: المالديف، كوشين، قاليقوط، هرمز، ظفار، الأسعاء، عدن، مقدشوه، برافا، وحوى الأسطول 41 سفينة وعددا من الرجال والضباط. وصدر المرسوم بهذه الرحلة في 3 مارس 1421م، ولكن الأسطول غادر متأخرا في 10 نوفمبر 1421م، ووصل عدن في 18 من شهر صفر 826هـ، وهذا يوافق تقريبا ( منتصف فبراير 1423م)، وكان من ضمن رجالات هذه الرحلة الكاتب والمترجم ( ماهوان )، وهي المرة الأولى التي يزور بها عدن، ومما كتبه ماهوان : «وعندما سمع الملك ( ملك عــــدن ) بوصولـــــــه (رسول صاحب الصين ) أمر الأعيان، كبيرهم وصغيرهم للتوجه إلى الميناء، والترحيب بهم واستلام مرسوم الإمبراطور وقبول الإنعامات والهدايا، وأقيمت في القصر حفلات تكريمية عبرت عن الاحترام والتبجيل والخضوع »(11)

وكتب ابن الديبع عن هذه الرحلة أنه في سنة ثلاث وعشرين، قدم عليه قاصد صاحب الصين بثلاثة مراكب عظيمة، فيها من الهدايا النفيسة ما قيمته عشرون لكا من الذهب، واجتمع القاصد بالملك الناصر، فلم يقبل الأرض بين يديه بل قال: سيدك، صاحب الصين، يسلم عليك ويوصيك بالعدل في رعيتك. فقال له مرحبا ونعم المجيء، جئت، وأكرمه وأسكنه بدار الضيافة، ثم كتب الناصر إلى صاحب الصين كتابا يقول فيه الأمر أمرك والبلد بلدك، وجهز له من الوحوش البرية والثياب الفاخرة السلطانية، جملة مستكثرة وأمر بتشييعه إلى مدينة عدن (12).

وفي كتاب آخر أظهر ( الديبع ) (13) مدى غضب الملك الناصر من أسلوب التعامل والتخاطب معه، قائلا : «ثم كتب الناصر إلى صاحب الصين كتابا فيه: الأمر أمرك والبلد بلدك، وهذا الخطاب عن قاصد ملك الصين للملك الناصر، العاري من اللطافة والمتسربل بالكثافة، يصدق الكلام الدائر على الألسنة من قولهم ملك الصين يظن أن كل الناس عبيده والظاهر أن فيهم حمقا وجهلا بأحوال البلاد وملوكها وإلا فالأدب موجب لمن تحقق من نفسه الكمال أن لا يخاطب غيره إلا باللطف والإجمال».

أما الرحلة الثالثة للأسطول الصيني إلى عدن، فقد كانت بمكان الرحلة السابعة والأخيرة للأسطول للدول المطلة على المحيط الهندي، بقيادة القائد العسكري الصيني العظيم البحار شينج خه، فقد جاءت بعد سنتين وشهرين من الرحلة السابقة، إذ صدر أمر بها في 29 يونيو 1430م، وتحركت في 19 يناير 1431م، واستمرت رحلتها حتى 14 سبتمبر 1433م، وكانت مـــن أهــــم الرحلات، إذ زارت - المراكب الصينية - التي بلغ عددها أكثر من مائة زنك أو مركب، المحيط الهندي من أقصاه إلى أقصاه، وأقلت على ظهرها ما يقارب ( 27550 ) فيهم الضباط في الجيش، والبحارة، والمترجمون، والأطباء، والمحاسبون، والتجار، والميكانيكيون، والحرفيون، وغيرهم .

وصلت البعثة الصينية إلى عدن في جمادى الآخرة 835هـ، في زمن حكم الملك الظاهر يحيى بن إسماعيل، الذي خلف أباه الملك الناصر (توفي في 827هـ)، وقد تدهورت عدن وضعف حالها نتيجة الصراع بين أطراف الحكم من ناحية، وبينهم وبين خصومهم من ناحية أخرى، وسوء الإدارة والفساد.

ووصل موفد ملك الصين بصحبة سيد الوزراء شهاب الدين أحمد المحالبي والشيخ جمال الدين محمد أبو جيان إلى لحج نهار الأربعاء 25 من شهر جمادى الآخرة 835هـ للقاء الملك الظاهر، وسلمه هدايا الإمبراطور الصيني، وتحرك معهم إلى عدن، للتفرج على مراكبهم وزيهم، واشترى مـــــن بضائعهم وتحفهم وباع لهم وحوشا منهم جملة مستكثرة، ولم تبق البعثة فترة طويلة في عدن، فقد تحولت إلى مكة المكرمة لكساد التجارة في عدن (14). لقد شكلت رحلات الصينيين إلى عدن شكلا متقدما من أشكال العلاقات التجارية المتقدمة، كما خلقت بداية طيبة من العلاقات الودية في زمن كانت تجوب فيه سفن القراصنة والطامعين، ولا شك إن هذه الرحلات إلى واحد من أهم موانئ المحيط الهندي قد عادت بالنفع على اليمن والصين، وتوالت حلقات السلسلة، لتتوج بإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 24 سبتمبر 1956م، وضربت هذه العلاقات نموذجا في العلاقات الإنسانية الدولية .

المراجع
1- العبدلي،أحمد فضل بن علي محسن، هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية 1980، ص20 .

2- ابن المجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المسماة بتأريخ المستبصر، منشورات المدينة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1986م، ص 134 .

3- بامخرمة، أبو الطيب بن عبد الله بن أحمد، تاريخ ثغر عدن وتراجم علمائها،دار الجيل - بيروت، دار عمان- عمان، الطبعة الثانية، 1987م، ص20 .

(4) انظر: عمشوش، مسعود، عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين، مقالة «عدن مدينة كوسمبوليتية في كتابات الرحالة الفرنسيين»، إصدارات جامعة عدن، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، 2003م.

5 - قاو يوي شنغ، سفير الصين لدى اليمن، قراءة في سياسة الصين الخارجية وعلاقاتها مع اليمن،مجلة الصين اليوم،عدد 3 مارس 2005 .

6 - انظر : السروري، محمد عبده محمد، الحيلة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن في عهد الدويلات المستقلة من سنة 429هـ/ 1037 إلى 626هـ/1228م، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة - صنعاء،2004، ص 497 .

7- محيرز، عبد الله أحمد، رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2000م، ص5 .

8- موقع إذاعة الصين الدولية على الأنترنت، البحار الصيني المسلم العظيم تشنج خه.

9- مصدر سابق ص 59،60 .

10- الخزرجي، علي بن الحسن، العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، ج1، مركز الدراسات والبحوث اليمني- صنعاء، دار الآداب - بيروت،ط2، كانون الثاني 1983م، ص23 .

11- انظر: محيرز، المصدر نفسه.

12- الديبع، عبد الرحمن بن علي، الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد، مركز الدراسات والبحوث اليمني - صنعاء، دار العودة - بيروت،1983م، ص107 .

13- الديبع، قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، القسم الثاني، مطبعة السعادة، القاهرة، 1977،ص123 . 14- انظر : محيرز، المصدر نفسه ص 65 .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى