الوحدة علاقات صادرة عن طبيعة الأشياء

> علي هيثم الغريب :

>
علي هيثم الغريب
علي هيثم الغريب
عندما توحد اليمن عام تسعين وتسعمائة وألف، كانت حدوده غير مؤكدة، ولكن داخلياً كانت الأماكن مسماة تماماً بأسماء الناس الذين يقطنونها، والحروب الايديولوجية التي أتى بها الاشتراكي من الكرملين عبر تعز لم تغير من قانون الخالق شيئاً. وهذه التقسيمات الطبيعية هي التي حافظت على وحدة اليمنيين عبر التاريخ، وهي التي جعلت الناس يشعرون بعاطفة جدا قوية تجاه بعضهم البعض وتجاه وطنهم اليمن.. ويحسون بمجدهم الغابر الذي دفنته حروب الطوائف والدويلات في القرن الثالث الهجري وما بعده. إن اليمن الطبيعية كانت تتألف من أرض ثابتة، معالمها الداخلية واضحة مثل الشمس في رابعة صيف عدن.. مقسمة لعدة سلطنات ومشيخات وقبائل وحتى أسر ناصعة السمعة والشهرة، وهي مزيج: هذه مدنية وتلك قبلية، ولكنها جميعها كانت متصلة ببعضها البعض، وكان لكل بقعة معلومة نفس مبادئ الوجود: الأرض والأمان ومبادئ السياسة والتفاهم والاعتراف بالآخر، تستشف بقاءها من اليمن الموحد.

تلك هي ذكرى تاريخنا البعيد التي لا تمحى من أعماق الضمائر الحية.. وبعد القبائل السابقة التي لم تفسدها الغنائم وحب النهب والاستيلاء على خيرات الآخرين، جاءت المذاهب ودويلاتها الصغيرة لتحرق الأخضر واليابس، فتارة توحد اليمن بالقوة، وتارة تمزقه بالقوة. وبالإجمال فإن الوحدة ضاعت في الماضي عندما توحدت قبائل ضد قبائل أخرى والعكس صحيح.. وكان الدين وشعار الوحدة سلاح كل منهما.

حقاً.. فاليمن قبل حرب النهب والفيد كانت سلطناته وقبائله تتعايش بسلام، فحققت وحدة شبه روحية وإنسانية، وجاء الإسلام واحترم تلك التقسيمات ولم يقص أي طرف من الأطراف، بل جعله يرتبط بها شيئاً فشيئاً، فأرسل رسول الله [ رسالة إلى مخاليف اليمن بحكم الطابع الخاص لكل مخلاف. وبعد ذلك خرج اليمنيون لنشر الإسلام، حتى أن أغلب قضاة مصر في عهد الإسلام الأول كانوا من الحضارم. وكان لليمنيين شأن عظيم في الفتوحات الإسلامية «أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوباً وألين افئدة . الإيمان يمان والحكمة يمانية» فأهل اليمن الذين لبوا دعوة نشر الإسلام هم أحفاد حضارات عريقة (الأحقاف وثمود وعاد ومعين ثم سبأ وحمير). وكانت اليمن ما قبل الإسلام مقسمة إلى أربعة مخاليف كبرى هي: صنعاء وحضرموت والجند وعدن تتبعها مخاليف صغرى، وقد بلغ عدد عمال النبي [ على اليمن واحداً وعشرين عاملاً. وأقر الخليفة أبوبكر وعلى أثره عمر بن الخطاب، رضوان الله عليهما، عمال النبي [ على اليمن. والحميريون كما أفاد التاريخ هم مقوضو دولة (سبأ) التي قضت على دولة معين. أي أن كل دولة كانت تجمع قواها لتضم بالقوة ما لا يلتئم مع جوهر قانون وجود الإنسان، لأن تلك القوى كانت لها أوهام السيطرة بالعنف.

ولكن كان التسامح من شيمة وصفات اليمني، حيث استنفر الإسلام قبائل اليمن، ووصل عشرة آلاف مقاتل من كندة وحمير وقبائلهم إلى الشام وعشرة آلاف مقاتل من همدان ومذحج إلى العراق، ثم ساروا معاً لفتح مصر والأندلس، ثم جاءت الدويلات اليمنية والفتوحات الداخلية الفوضوية، التي اتخذت من الضم وإلحاق بعض المناطق هدفاً لتوحيد اليمن، فانقسمت اليمن من جديد على نفسها. وبدلاً من أن كانت البلدان الإسلامية تستعير من اليمن معونة قضاتها ومفكريها وعلمائها وفلاسفتها، بدأت اليمن تطلب الاستقرار من داخلها والعلم من دائرة المعارف في اسطنبول. والحق أن اليمن كانت تنقب عن وحدتها، وفي الوقت ذاته كانت قبائل الفيد والغنيمة تتبادل تمزيق الوطن على أقصى ما تستطيع، متبعة في ذلك عادتها القديمة .. فحروب الضم والاستيلاء على الأرض لم تأت للتصحيح بل للهدم.. وهكذا كان كل جزء من اليمن يئن من الماضي وحروبه.

ثم جاءت مرحلة الثورتين (سبتمبر وأكتوبر) ومما لا ريب فيه أن النقد سيكون قاسياً إذا ما تحدثنا عن هذه المرحلة. وفي النهاية- بعد خراب الشطرين- أعلنت الوحدة وبدأت المعارك تشتعل، وتولدت من خلالها الأحقاد. وعلى أثر ذلك هاجت القبائل الدهماء فحطمت الأراضي والأنفس، واستولت على أملاك أبناء محافظات الجنوب. وعندما يتعلق الأمر بما يمس إحساس الشعب، فإن التسامح يصير بعيداً. واليوم، فإن فرقاء العمل السياسي بدلاً من أن يتبعوا الطريق الأكثر ديمقراطية، والتي عادة ما تنتهي إلى التآلف والوحدة، مازالوا يتخذون ممراً ضيقاً ووعراً، حتماً سيجدون عند نهايته الافتراق. ويبدو أن للعقلية الحضرمية اليوم فعل التوازن في اليمن. فلماذا لا يسمح لها أن تعود إلى عبقريتها العظيمة؟.. فهذه دعوة جدية إلى وحدة نقية وثابتة، لأن التنوع في اليمن يجري في جسم حي يحتفظ فيه كل نوع بكيانه وقانونه الخاص.. وتغييب ذلك يقودنا الى الأهوال.. ولا ننسى أن الجنوب كانت مقسمة إلى سلطنات وإمارات ومشيخات، ولكن كل هذه الأنواع التاريخية كانت ممثلة وكانت تشبه أن تكون مكونة من قطع متآلفة تماماً. ولكن بعد أن وحدها الحزب الاشتراكي بالقوة بدأت تشعر بضعفها السياسي، وكانت تتألم وتأسف، ومهما كانت «اشتراكيتها» إلا أنها كانت تنتفض في كل مرة من عدن حيث المركز. ولم يكن حقاً أن علماءها كانوا ذوي قيمة منخفضة، بل إن سمو قبولها بالآخر يؤكد حق التنوع في اليمن، واليمني وكل عربي ومسلم كان في كل مكان في محافظات الجنوب قبل أن تتدهور الحالة الآن. وهنا نحن نذكر أصحاب الشأن بتلك الحياة المستقرة، وهي المستقبل وعماده، على أنه مهما كان الحوار المطلوب بين الأحزاب فإنه إن لم يعالج واقع اليمن الذي خلفه الاشتراكي قبل الوحدة والمؤتمر والإصلاح بعد الحرب (94م) فإن تركيبة المجتمع وبنيته هي واقعة سيكولوجية، ستبقى يقينية لأنها الفطرة العملية، وأحد معالم الشعور بالسعادة والأمان لتلك النفس. وهذه الكيانات على مر التاريخ كانت متحمسة للحكومات المدنية، وترفض الالتئام مع الحكومات المستبدة. وحتماً ستبنى الوحدة - حتى بدون حوار سياسي - وعلى تخطيط اجتماعي بسيط، وعندما تكون قد تهدمت تلك العقائد القبلية التي غطت أراضي البور والزراعة في محافظات الجنوب، بل وعندما تختفي تلك التأسيسات العتيقة المهوشة للوحدة، التي لم تكن سوى أطماع فاشلة. وإذ ذاك ستقوم الوحدة فوق أرض مستوية، ولن يحميها إلا أصحاب الأرض الاصليون. هكذا ستصبح الوحدة بين اليمنيين من المهرة إلى صعدة طبيعية وستتبع التكوين الذي وضعته الطبيعة فينا. وما قاله الآنسي حول التغيير الديموغرافي لمحافظات الجنوب، أو ما قاله الديلمي حول «قتل أبناء محافظات الجنوب» أو ما قالته المشايخ حول تقاسم الأرض كغنيمة حرب، كل هذه التخرصات والأوهام ما هي إلا أكاذيب أمام قانون الطبيعة، ولا تظهر إلا الازدراء من الإنسان والتاريخ، لأن هذه الأهواء متبعة لدى الحيوانات وليس الإنسان.

فكم كانت عميقة وقوية تلك العاطفة التاريخية التي جسدت الوحدة في الأنفس، وكم كانت مخيبة للآمال أفعال المشايخ ورجال الفتوى من حزب الإصلاح الذين يتقاسمون أرض محافظات الجنوب بدون خجل ولا وجل.. مستفيدين من القانون الخاص بالقيود. ولنأخذ مثلاً تلك البلدان التي لا تعد، والتي كانت وحدتها مكتسبة منذ وقت طويل أصبحت اليوم تحاسب الظالمين وناهبي ثروتها وأراضيها. وهناك بلدان موحدة ولم تكن وحدتها مكتسبة عبر التاريخ، إلا أنها محتفظة بوحدتها التي أصبحت تشبه المجمع المستقر، لغته مرصعة بالتسامح والمحبة والسلام الذي صنعه الأوائل بدون دماء، ولا نهب، ولا جيوش تصنع الاستقرار. فأي وحدة تتم بالقوة هي وحدة سطحية، وهي انتصار واهن، وإهانة موجهة إلى المتضررين منها، والرأي العام من السهل أن يصفق ويبكي ويهتف معلناً وحدته إما خوفاً من العقاب وإما لما تثيره من انفعالات بدون قيمة مستقبلية. قال ابراهام لنكولن عندما قرر أن يعطي الجنوبيين حرية إنشاء ولاياتهم: «عندما يتعلق الأمر بالوطن لا بد أن نسلمه لمواطنيه». غير أن هذه العاطفة الوحدوية وها هي إيرلندا تأخذ استقلالها من بريطانيا العظمى. أما فرنسا بهيئتها الدولية القوية فقد وحدها المسرح. أما ألمانيا فقد توحدت من قبل بسمارك لأن قواعد الوحدة تحددت قيمتها نهائياً بعد أن تجاوبت مع حقوق الأقليات في كل ولاية، ولم يحسب أحد بأنه خاضع للآخر. وها هي حركة جنيف الانفصالية في سويسرا تنكرت للدولة الكونفدرالية، والدولة لم تُبد هذه الحركة بل وعدتها بأنها ستبدأ مناقشة تعديل استراتيجية الدولة. وما يدور في أوربا المسيحية اليوم هو انعكاس لماضيها الأدبي والفلسفي الذي جاء متوهجاً بعد محاكم التفتيش، حتى أن فريدريك الثاني الذي حرر ألمانيا كتب أفضل الرسائل عن حب الوطن في ذلك الزمن، بلغة فرنسية، وعندما عاتبه شعبه الألماني رد قائلاً: «إن ألمانيتنا لم تصل بعد إلى درجة النضوج». وعدم اعترافه بالأدب الألماني لم يغير من حبه ووفائه لوطنه، والحقيقة التي أطلقها جعلته يعيش مخلداً. هكذا كانت اليمن، وهكذا تعاملت بلدان أوروبا مع مواطنيها ومخالفيها بالرأي.

والمواطن لا تمثله الوحدة، بل ما يمثله هو الواقع الذي أنتجه. فهل يستطيع الإنسان أن يعيش وفق حدث واحد من أحداث حياته، أم أنه يعيش ذكريات عدة أجيال لأجداده، ذكريات تعيش معه في وقت واحد ولا يسمح لأحد بتجاوزها.

وبعد ذلك لننظر في صعوبات الحوار، الذي أكد فخامة الأخ الرئيس على أهميته، هل سينظر من خلال الحوار إلى السلبيات التي رافقت العمل الوحدوي أم إلى مناطحات الأحزاب؟! وهل الحوار هو أساس استقرار السياسة، أم مطالب أبناء محافظات الجنوب؟! أليس في التجارة - كما يقال - أن فشل أحد التجار نعمة على جاره؟! وأن مصائب قوم عند قوم فوائد، كما تقول حكمة العرب؟! وهل مطالب أبناء محافظات الجنوب التي ما زالت بعض قيادات الاشتراكي تدمرها بالكامل، هي بلا سبب أو أنها تعبر عن مزاج سوداوي؟ ألا يوجد مهندسون للوحدة يعالجون بيت الوحدة المشترك كالهندسة البنائية الراسخة، بعيداً عن الأمن والمشايخ؟! إن عدم الاكتراث بمطالبنا يجعلنا غير حاسين بالوحدة، وغير قادرين على المشاركة في بنائها، فلماذا يتحول حب الوحدة والشوق إلى مجد اليمانيين إلى استهتار عام وتجاهل للآخرين وإلى خضوع وضيع، ورغبة عنيفة في تأديب الآخرين؟

وأخيراً نقول إن الحوار الذي يترك مطالب أبناء محافظات الجنوب جانباً، سيصبح مثل الذي يستبدل قانون القوة بقانون الوجود . وفي الواقع أن الوحدة وحقوق الناس تستعملان كوسيلتين للاستقرار والسلام الاجتماعي. ونحن رغماً عنا يجب أن نكون وحدويين، لأن الوحدة هي انعكاس لنظام الكون، ولكن قانون الوحدة الأول هو قانون الاحتفاظ بكياننا، أي أن تحتفظ كل أرض بناسها، وأن تكون هي الملجأ لكل عضو فيها. وأي وصاية داخلية أو خارجية مرفوضة، بل وتتناقض مع نواميس المعمورة. فأي شكل من الرغبات الوحدوية يفرض على الناس، حتماً سيخلق من داخله وسائل إنهائه. وفي الوقت الذي تصبح فيه الوحدة باهظة الثمن، أي عندما يصبح أبناؤها مثل «عروس النيل»، تفقد تدريجياً مزاياها العظيمة، إذ أن الوحدة تفترض فيها الفوائد المتبادلة بين الأطراف المتعاقدة والمتشاركة، وإذا انقطعت هذه الفوائد انقطعت الوحدة أيضاً. والله من وراء القصد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى