أيــام الأيــام...السودان الجديد والحكم الرشيد

> نجيب السلامي:

>
نجيب السلامي
نجيب السلامي
قف..منذ استقلال السودان بزعامة الفريق عبود، وطوال ما يقارب خمسة عقود، ظلت الجمهورية موحدة الأرض والشعب. وعلى الرغم من التعدد القومي والعرقي والإثني، لم يبرز الحديث السياسي السوداني مطالب انفصال الجنوب عن الشمال، وذلك يعود للوحدة العضوية والاجتماعية للشعب السوداني الواحد، إلا أن مسار الأحداث السياسية المضطربة والمتقلبة التي أعقبت الاستقلال، حالت دون تحقيق نقلة تنموية متقدمة، كما أضرت ضرراً بالغاً بالاقتصاد السوداني الذي تراجع حتى أصبح عاجزاً عن تلبية الاحتياجات الضرورية، الأمر الذي جعل من السودان المستقل دولة طرد واسع للسكان نحو هجرة قسرية بفعل العامل المعيشي.

توالت الانقلابات العسكرية في السودان، الأمر الذي همش الجنوب وأفقده القدرة على الحياة الإنسانية حتى في حدودها الدنيا، مما أوجد الغبن والإحساس بانتقاص المواطنة، جاءت محصلته النهائية الرفض والتمرد الذي فرض نفسه على العلاقة مع الدولة المركزية في الخرطوم.

وهكذا ظلت السلطة المركزية تتقلب بفعل تواتر الحكومات من الشكل القومي إلى الأممي إلى الإسلام السياسي المتأسلم، الذي صعّد من حدة الاضطراب والتمرد نحو الحرب العسكرية المنظمة، تحت قيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان بزعامة الدكتور (جون جارنج).

أصبحت المواجهة العسكرية السمة الغالبة لعلاقة الشمال بالجنوب، الأمر الذي أدى إلى زيادة تهميش الجنوب، مما حوّل مطالب التحرر الوطني إلى مطالب الانفصال السياسي، وهكذا تواصلت وتيرة الحرب التي لم تهدد الأمن السوداني فحسب بل ودول الجوار التي تداخلت مع الحرب سواء بمساعدة طرف على طرف، أو بالتدخل المباشر في الشأن السوداني.

ظل الزعيم (جون جارنج) وجيشه الشعبي، رافعاً شعاراً التحرر والوحدة الوطنية، ومن جهة أخرى ظل يرفع شعار انفصال الجنوب عن الشمال كمخرج لانسداد الأزمة القائمة، من أجل مواجهة الرفض والتعنت المتصلب للحكومة المركزية في الخرطوم.. وهكذا سارت الحالة السودانية بين المدّ الوحدوي والجزر الانفصالي حتى جاءت حكومة الإنقاذ في الخرطوم بزعامة عمر حسن البشير.

استطاع الرئيس السوداني (البشير) أن يعالج التعقيدات الداخلية، كما عمل على احتواء المعارضة في الخارج من خلال تمسكه بشعرة معاوية لم يفرط بها على الرغم من التصريحات النارية التي تطلق على هذا وذاك. وعلى الصعيد الاقتصادي، تمكن من إحداث نقلة اقتصادية نوعية بالاستكشافات النفطية واستخراج النفط، الذي أصبح رافداً اقتصادياً جديداً للسودان، والذي ظل بدوره عاملاً للاستقرار والسلام من أجل وحدة وطنية حقيقية بدلاً من أن يكون عاملاً للتأزم والتمزق والانفصال.

جاء اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الشعبية لتحرير السودان، محدداً بالدستور الجديد الانتقالي الذي أصبح نافذاً بعد أن وقعه الرئيس عمر البشير والدكتور جرنج يوم السبت الموافق التاسع من يوليو الحالي، وتضمنت بنود الدستور الانتقالي حق أبناء جنوب السودان في تقرير المصير بعد نهاية الفترة الانتقالية بالاختيار بين الوحدة الفيدرالية والاتفصال وذلك للضغط على حكومة الخرطوم من أجل الالتزام بتعهداتها الجديدة للدولة الانتقالية الناشئة الجديدة .. ومن جهة أخرى حدد الدستور الانتقالي بداية التعهدات التوزيع العادل للثروة بين الشمال والجنوب وهو البند الاقتصادي والأخلاقي أولاً. وفيما يتعلق بالمصالح، لم تأت المصالح على قاعدة الأكثرية العددية أو على المساحة الجغرافية للارض، وإنما جاءت على أساس قاعدة عدالة التنمية وبحسب الاحتياجات.

لم ينحصر اتفاق السلام السوداني على الشمال والجنوب، فهناك اتفاق آخر في طريقه للتنفيذ مع غرب السودان في إقليم (دارفور)، كما أن هناك تعهدات معلنة لاتفاق آخر مع شرق السودان على قاعدة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والجغرافية، كما أشار لها الرئيس عمر البشير في كلمته عقب التوقيع على الدستور الانتقالي، مما يعني ذلك توسيع نطاق الفيدرالية لتشمل النطاق الجغرافي السوداني بأكمله.

وهكذا تنتقل السودان اليوم من شكل الدولة الاندماجية المدموجة التقليدي إلى شكل الدولة الحديثة على قاعدة العلمانية السياسية وفقاً للخصوصيات السودانية.. الآن دخل الزعيم الدكتور (جارنج) قصر الرئاسة في الخرطوم، بدون دبابة أو مدفع وصاروخ من دون تقاسم أو قسمة وضمن شراكة في الإدارة السياسية الكاملة حتى تستقيم الاتفاقات وتثمر، ويبدو أنها سوف تثمر بعد أن أثمرت قيادة سودانية رشيدة.

في الأخير، ظلت العلاقات اليمنية السودانية متقدمة، تميز بإعلان القمة الثلاثية مع كل من الخرطوم وأديس أبابا، وقد نشطت الدبلوماسية في هذا المسار لإبراز مصداقية الالتزام، ومن جهة أسهمت إثيوبيا عمليا بإنجاح مشروع السلام السوداني ضمن خصوصيات العلاقات الثنائية، بعيداً عن القمة الثلاثية، وهو الإسهام الإثيوبي الذي ثمنه الرئيس السوداني (البشير) في كلمته بمناسبة الاحتفال بالتوقيع على الدستور الانتقالي. وذلك إلى جانب الولايات المتحد الأمريكية التي وصفها الرئيس السوداني «التي قدمت المساعدات الكبرى لإنجاز مشروع السلام».

والآن.. لا ندري إن كان عقد الترابط والارتباط الاستراتيجي لقمة الدول الثلاث قد انفرط.. كما لا ندري إن كان الانفراط يعني أن مشروع السلام السوداني قد عزل اليمن بعيداً.. أم أن الدبلوماسية اليمنية قد عزلت نفسها بعيداً عن مصالح كان من الممكن أن تكون رافداً حيوياً للمصالح اليمنية الوطنية الكبرى. والله من وراء القصد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى