محاكمة العريس في يافع!

> «الأيام» مختار مقطري :

>
مختار مقطري
مختار مقطري
ما أرى تاريخ يافع مقرونا بحمير فقط، بل أراه أقدم من حمير وأسبق إلى الوجود وتأسيس الممالك و بناء الحضارات، كأرض صانعة للتاريخ منذ القدم. ولعل النقوش الآثارية لو وجدت اهتماما علميا وتمويلا مركزيا، تنبئنا بصحة ذلك، وأن حمير لم تكن سوى حضارة لمملكة واحدة نشأت بيافع، في مرحلة تاريخية صنعتها حقب لم تصلنا أخبارها ولم تحدثنا عنها النقوش، كذلك لما ليافع اليوم من موروث ثقافي وفني وتراث غني ومتنوع زاخر بالألق والجمال، أشك معه أن يكون إرثا لحضارة واحدة فقط، ولعل حضارة يافع المزدهرة حينها مكنت حمير من تأسيس مملكتها على أرض معطاءة بالخير والتناغم البيئي ضمنَ استقرارا دائما للسكان، فتوالت على يافع حضارات.

ومظاهر الاحتفال بالزواج في يافع، أحد التقاليد الاجتماعية المرعية التي يتجلى فيها عمق وأصالة التراث اليافعي، من خلال ممارسة عدة احتفالات جماعية متوارثة، تبدأ قبل يوم (الغسل) للعروس، وتنتهي يوم تسليم العروس للعريس الشبيه بالدخلة، إلا أنه في يافع ينتهي مع المغرب، في تظاهرة فنية لرقصة البرع وما يتخللها من إنشاد للزوامل التي يتبارى فيها الشعراء في نسيج حواري بديع.

ويوم (المحاكمة)، مظهر احتفالي يؤكد أهمية تحلي الفرد بالوفاء للآخرين والإخلاص للجماعة، فخروج العريس من دائرة حياة العزوبية وتخليه عن أصدقائه العزاب بالانتقال إلى الحياة الزوجية يستدعي محاكمته في جلسة تنظم أول أيام الزواج، في بيت عائلته عادة، تبدأ بعد صلاة العشاء وتنتهي بعد منتصف الليل، ويحضرها إلى جانب أقرباء العريس أصدقاؤه وعدد كبير من أبناء قريته وعشيرته وكل من لديه تهمة يود توجيهها للعريس.

والتهم الموجهة للعريس قليلة الشأن، لو عُدت تهماً لصرنا جميعا متهمين، ولكن أسلوب عرضها يحولها إلى تهم خطيرة تستدعي محاكمته، ولهذا الغرض يتم ترشيح بعض الأفراد لتولي أدوار القاضي وممثل الادعاء (النيابة) ومحامي الدفاع عن المتهم (العريس).

ويوم (المحاكمة) تقليد موروث منذ زمن بعيد مجهول البداية، مما يدل على توغله إلى تاريخ بعيد، وعليه - إن لم يحدد تاريخه - فإن العثور على نقوش أثرية مكتوبة بالخط المسند أو مشروحة بالرسوم، تؤرخ لممارسته من قبل الإنسان اليمني القديم بيافع أمر غير مستحيل، لو بذلت جهود علمية في التنقيب عن الآثار بيافع، وما دخول مسميات حديثة مثل (النيابة) و(محامي الدفاع) إلا دليل على أصالة هذه الظاهرة المتوارثة وقدرتها على المعاصرة باستيعاب أي تطورات جديدة دون المساس بجوهرها وحيويتها العبقة بأصالة التراث.

وتتوالى وقائع (المحاكمة) ويستمر توجيه التهم للعريس من قبل ممثل الادعاء، الذي يدخل مع محامي الدفاع في تحد ومناورات لإثبات التهم الموجهة ضد العريس، وما يترتب على ذلك من تقديم للأدلة واستجواب الشهود، ليستميت الدفاع في دحضها ونفيها، والقاضي هو رئيس الجلسة الذي عليه أن يديرها باقتدار، وتصبح أوامره نافذة على الجميع.

ويحتدم الموقف وسط بهجة الجميع، ليواجه العريس أعنف المواجهات والاتهامات التي تصبح وكأنها حقيقة، إذا ألمح القاضي بأنه لن يتوانى عن إصدار أقسى العقوبات على المتهم إذا تبينت إدانته.

وهو ما يتحاشاه محامي الدفاع كي لا يقع موكله فريسة لسخرية أصدقائه وتندرهم عليه لعدة أيام بعد الزواج، وقد تصبح ذكرى مناسبة زواجه مقرونة بهذا الذي أدين فيه ولم يتمكن من الدفاع عن نفسه.

ولعل أقسى ما يمكن أن يصدره القاضي الأمر بتفقد العريس، بناء على تهمة موجهة ضده بعدم مقدرته على القيام بواجباته الزوجية، وتفقد العريس، وهو تقليد يمارس في عدن يوم (الحناء)، بلا محاكمة، يتولى القيام به من يختاره القاضي.

ومن خلال تفقد عيني العريس وأسنانه وذراعيه وساقيه يرفع تقرير مكتوب أو شفاهي للقاضي، ويتولى المحامي تفنيد ما فيه من ادعاءات.. كل ذلك يتم في عرض مسرحي تلقائي يتفوق فيه المشاركون في اندماجهم وانفعالهم الصادق في ممارسة هذا التقليد، الذي ورثوه عن الآباء والأجداد وحرصهم على المحافظة عليه وتوريثه للأبناء.

فأين المسرح اليمني من هذا الموروث الشعبي وحكايات التراث اليمني الثقافي والفني، لتجسيدها على خشبة المسرح، فينقل إليها الحياة، لنصنع مسرحا حقيقيا يعبر عنا وعن ثقافتنا؟

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى