قصة قصيرة بعنوان (سلوم)

> «الأيام» محمد أحمد باسنبل:

> تراخت يدي وأنا أسلمها طائعاً شوال الحنطة، وتذكرت ساعتها، فأصلحت من هندامي، أقفلت زر الياقة وهممت بالرحيل، لكنني أحسست بلكزة على صدري كأنها إبرة نحلة غاصت دواخلي، موجعة للعظم، ما أقسى وخزك يا عمة سلوم! سمرت عيناي الدامعتان عليها، وعلى إبهامها القوي، قوي كالفولاذ، وبقبضة نحيلة أخذت تجذب قميصي الملفوف بشحم البطن، ألبستني القميص عنوة، جذبتني إليها، وقالت بصوت راج: يا ود زين خل عنك الصياعة.

كانت العمة سلوم تعيب عليّ صفاقتي، فكثيراً ما كانت تنهرني إذا ما بدر مني شيء ترى أنه ينافي السلوك القويم. وحين أحسست بتراخي يدها، أغفلتها، أبعدت قميصي من قبضتها، وأطلقت ساقي للريح هارباً. وعدت أترقب حركاتها من كوة دارنا المقابل لدكانها، كانت لا تهدأ أبداً، وكذلك طاحونتها، ترفع شوال القمح، وتكبه في حوض الطاحونة دون وهن، وتقرب الشوال الآخر إليه، وهي تصلح حبلاً ربطته إلى خصرها، ترفع ثوبها الداكن قليلاً إلى الحبل، وتصدح: حولاه الليلة يا حولاه.. الليلة السماء تمطر.

ريح سامة أتت من الشمال، من صحراء الربع الخالي، فطوحت بقربة الماء أرضاً، أدارت للريح ظهرها، أحنته قليلاً، تحسست مواطن الألم فيه، ثم كنست نشارة القمح والتراب الجاف، وبخرقة مبلولة بزيت النارجيلة عاودت مسح قمع الطاحونة، وفجأة رأيت أبي يتقدم إلى دكانها، مشى مطرق الرأس، تردد قليلاً عند بابها، ثم ولج مندفعاً وهو يشير إلى بيتنا.

أبي يريد أن يرحل، يود أن يعمل في مدينة جدة، ولقد أتى إليها مودعاً، كان يتحدث بصوت خفيض، لذا لم أسمع شيئاً مما قال، ولما رآها متشاغلة عنه بحبات قمح في راحة يدها، قفل راجعاً مكسوف الخاطر، رأته حزيناً، هرولت في أثره، وعند عتبة بابها قالت له بصوت مؤنب:

- يا زين.. جدة هذي أكلت عيالنا.

أحسست بشيء يلتصق بساقي، أخفضت رأسي لأراه، فارتطمت أرنبة أنفي بحد الكوة، ولم أتمالك نفسي، صحت بصوت عال: آاااه، كانت قطتي تلاعبني، ولكني نهرتها بعنف.

استأنفت النظر من جديد، رأىت أبي يقطع من نخلة دارنا سعفة، ويجردها من جريدها، تيقنت حينها أنه رآني أتلصص عليهما، أوسعت لحذائي مكاناً تحت إبطي، نزلت الدرج متسللاً. وعدوت أسابق لواقح النخيل في الوادي.

ركضت حتى باتت قدماي لا تسعفاني لحمل جسمي الغض، الهزيل، استوقفتني زهور الرمان الكابية، ففرشت أعضائي تحتها ونمت.

عند المغيب سيرحل أبي، وسيصفح عني دون شك، إذ قد لا نلتقي معاً إلا بعد سنين طوال، ولكن قدميّ تثاقلتا، وبيتنا يبعد بضع خطوات عني، ذلك لأن لأبي راحة إن لامس بها خدي، لكان أثراً بعد عين.

سمعت صراخ طفل، فحولت عيني إلى مصدره، وجدت العمة سلوم تحمل بساعدها الأيمن حفيدها الباكي، طردت وساوس الخوف من مخيلتي، طرقت باب دارنا، وانفرج الباب على مصراعه لوحده، كان أبي قبالتي، أحنيت رأسي خجلاً منه، سمعته يضحك، لوى أذني بحنو وقال:

- عبود هو ذاك هو ما شي تغير في عبود. خلت ديار قريتنا منذ أعوام من ذوي الشوارب الطرية واللحى، سافر أخي منذ عامين، وتبعه عمي إلى جدة وقبلهما ذهب رجال كثيرون إليها، واليوم يلحقهم أبي، وربما غداً أتبعهم حين أبلغ مبلغ الرجال، ولم يبق في قريتنا إلا بيوت طينية خربة، وبضع لابسات «للشياذر» وساعدان معروقان صلبان يتفحصان ركائز طاحونة؛ ينتميان لجسد العمة سلوم. وما أن ابتعد أبي عني حتى ارتضيت لنفسي مكاناً طيباً عند وسط الدرج، وتحديداً عند الكوة، كي أمتع ناظري بالتلصص على العمة سلوم ودكانها.

يا برودي .. يا ريح جاوي

يا تمر هندي .. الخير واجي

أخذت تدندن لحفيدها الدامع، رأيتها تحني جذعها وتمسد رأسه بحنو، قربت له بضع تمرات في وعاء، وسارت ببطء إلى الداخل.

بعثر الصبي التمرات، وحبا باتجاه الطاحونة، لم يكن من أحد حوله، والمحرك يدور والطاحونة تطحن، لا أدري لمَ تسمرت قدماي، كانت دورة المحرك تدور بسرعة فائقة، نظر إليها الصبي، رفع يده اليمني قليلاً، وأراد الإمساك بها.

يا الله.. التف السير على معصمه، دارت بجسده دورة كاملة، ورمته بقوة باتجاه كوز الماء المقابل، ناثرة دمه في كل مكان. أخرجت رأسي من الكوة وجسدي ينتفض بشدة، اتكأت على عارض الدرج، وأجهشت في البكاء وزاد نحيبي حين دوت صرخة العمة سلوم في الآفاق، كانت صرخة مفجعة، اهتزت لها أركان ديار القرية كلها. وأقفل لأيام دكان الطاحونة.

ساد الحزن في كل مكان، ولم تُر العمة سلوم لأيام، ذهبت نسوة القرية إلى الدكان، وكم أجهدن أنفسهن بالطرق على بابها.. عبثاً حاولن مناداتها، وما من مجيب. ويئس الجميع من ظهورها إلينا مرة أخرى.

سرت إشاعات أن العمة ستلحق بزوجها وولدها الوحيد إلى مدينة جدة. لا أدري لمَ لم أصدق أحداً منهم.

لبست طاقيتي الداكنة، وبعد إلحاح والدتي أحشيت قدميّ بنعلين جديدين، وعند خروجي لصلاة الجمعة استوقفتني تلك الكوة، سددتها بقصديرة كنت اتخذتها لعبة لي، ومشيت تقابلني ردفتا باب دكان العمة سلوم.

كان الدكان مفتوحاً وبداخله العمة سلوم تمسح قمع الطاحونة، والمحرك الذي بدا نظيفاً، وهي تصدح: حولاه الليلة يا حولاه.. الليلة السماء تمطر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى