مع الأيــام..في هذه الحالة فقط يمكن أن نصدقهم

> أحمد عمر بن فريد:

>
أحمد عمر بن فريد
أحمد عمر بن فريد
اجترحت عقلية الزعيم الإفريقي الكبير نيلسون مانديلا فكرة إنسانية كان لا بد منها، لإسدال الستار على آخر مشهد للنظام العنصري البغيض الذي حكم بلاده، وقهر شعبه بويلات من العذاب و التنكيل والقمع والجرائم البشعة، والمجازر الجماعية التي شهدتها جنوب إفريقيا إبان مناهضة نظام (الابرتهايد)، وكانت تلك الفكرة الإنسانية تقوم على عاملي (التسامح والعفو) ما بين الضحية والجلاد أو من يمثله من أهله وذويه أو أبنائه أو حتى عشيرته إن كان قد فارق الحياة.

لب الفكرة تعتمد على اعتراف الجلاد أمام الملأ في محكمة رسمية بجميع جرائمه التي ارتكبها شخصيا أو شارك في تنفيذها أو حتى شاهدها، على أن يحدث ذلك أمام الضحية الذي ربما يكون معتقلاً سياسياً نال من العذاب ما هو فوق طاقة الإنسان واحتماله، وكانت المواجهات تحدث يوميا ما بين الفرقاء على مرأى ومسمع الجميع داخل قاعة المحكمة، وكانت تنقل حية على الهواء عبر التلفزة المحلية لتعكس مواقف إنسانية قلما تحدث في تاريخ البشرية .. مواقف تختلط فيها دموع الندم بصرخات العذاب، وتتجلى فيها سمو المشاعر البشرية وقدرتها الكبيرة على طي صفحات الماضي بما أودعه ربنا في نفوس خلقه من سمات العفو والتسامح والمغفرة. كانت مشاهد المواجهات مؤلمة وقاسية للجانبين معا، وكانت دموع الندم تذرف من أعين المتهمين، وهم يعترفون ويسردون حقائق ما قاموا بارتكابه من فظائع في وجود ضحاياهم، الذين يذكرونهم إن أغلفت ذاكرتهم - بين الحين والآخر - بإثم ارتكب أو خطيئة اقترفت ولم يتم الحديث عنها سهوا أو خجلا.

تلك الاعترافات الإنسانية مثلت عملية غسيل محترمة (للضمير الإنساني المجرم)، وتصفية للنفسيات البشرية من العقد والشعور بالقهر والاضطهاد، وكانت تلك الجلسات تنتهي بالتسامح والعناق ما بين الطرفين، دون أن يذهب المجرم إلى السجن أو حتى إلى المحكمة الرسمية، على اعتبار أن هذه الوقفة الوطنية تشترط التسامح و العفو أولا و أخيراً حتى تسير البلاد من نقطة بداية جديدة وحتى تتجاوز مآسي الماضي السوداء.

المملكة المغربية .. حظيت مؤخرا بإشادة جماعية من قبل المشرفين على كتابة تقرير التنمية البشرية العربية الأخير، بسبب انتهاج المغرب الفكرة الإنسانية النبيلة ذاتها للزعيم الإفريقي منديلا، إذ قامت حشود من أركان نظام أجهزة الأمن السياسي في البلاد، بالإعلان أو الاعتراف العلني عن جميع الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في حق ضحايا المعتقلات السياسية في زنازين القمع والاستبداد، وبحضور الضحايا أنفسهم، وكانت جلسات مصالحة وتسامح وصفاء.

في بلادنا اليمن، وإبان فترة الحكم الشمولي، وخاصة في جنوب البلاد، حدثت سلسلة طويلة من الجرائم البشعة لمواطنين أبرياء، ودفنت (كونتينرات) كاملة ممتلئة ببشر كانوا يتنفسون الهواء ويعشقونه قبل أن تكتم أنفاسهم تحت الرمال الساخنة، لمجرد أنهم حُسبوا على هذه المنطقة أو تلك، وجُزت رقاب كثيرة وكبيرة في زنازين المعتقلات دون أن يعلموا لماذا حدث لهم ذلك، ودون أن تعلم أسرهم كيف انتهى مصيرهم .. وأين ؟

أجزم أن المئات من الجلادين، إن لم أقل الآلاف منهم ما زالوا يعيشون بيننا اليوم، وربما أن البعض منهم ما يزال في موقع المسؤولية، وفي ذاكرة هؤلاء جميعاً الكثير مما يندى له الجبين من الجرائم والفظائع، ولا زالت أيديهم ترتعش بين الحين والآخر كلما مررت ذاكرتهم على أعينهم بطريقة لا إرادية مشهدا لجريمة إنسانية بشعة حدثت هنا أو هناك.

والمصيبة ولربما الطامة الكبرى، أن يتحول هؤلاء الجلادون اليوم إلى دعاة ومناضلين لإرساء أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان التي انتهكت من قبلهم في يوم ليس ببعيد، وتراهم في مواقفهم وكتاباتهم اليوم أشبه ما يكونون بملائكة الرحمة على مستقبل هذا الشعب، بينما نجد أن تاريخهم (الأسود) لا يسمح لهم من الناحية العملية بترجمة ربع ما يتحدثون عنه اليوم ويتباكون عليه من قيم إنسانية.

لهؤلاء وللدولة في بلادنا .. أوجه الدعوة لفتح محاكم الاعترافات الإنسانية، على أن نضمن لهم نحن أهالي الضحايا (العفو والتسامح) وطي صفحة الماضي بكل تفاصيلها المقيتة، وبعدها (فقط) يمكنهم أن يتحدثوا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لعل أحداً من الذين سامحوهم يصدقهم أو يتعاطف مع طروحاتهم تلك.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى