ماليزيا بين مالية الغرب وروحانية الشرق

> صالح باعامر:

> كثيرة هي البلدان التي زرتها وأعجبت بأشياء فيها.. ففي سوريا أعجبت بسوق الحميدية وبالمآثر العربية الإسلامية وفي الأردن بدقة النظام وفي مصر بالألفة وفي ليبيا بتلقائية الإنسان النابعة من الصحراء.. وموسكو وبرلين الشرقية آنذاك بهيبة الدولية والأمان وبون بالتقدم الصناعي وجدية الإنسان وهدوء لاهاي ليلاً وحركة شوارع أمستردام وقنواتها العديدة، أما بلغاريا فبالجمال والاخضرار والاقتراب من الشرق وباريس بالمتاحف والمكتبات والأحياء التي تذكرك بأفضل الروايات العربية وأثيوبيا بالبساطة والانطلاق والتاريخ المشترك مع اليمن، كل بلد وله مزاجه ومذاقه وخصوصياته.

آخر هذه البلدان هي ماليزيا التي سمعت عنها كثيراً في السنوات الأخيرة ولم أقرأ شيئاً عنها إلا النذر اليسير، هذه الزيارة جاءت بتشجيع من الأستاذ القدير عبدالقادر علي هلال.

حزمت أمتعتي في دقائق وانظممت إلى الركب رغم تعثر قدمي عن السير، كان الوفد اليمني والثقافي يضم أدباء وكتابا ومؤرخين وإعلاميين. في الحادية عشرة ليلاً من يوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس 2005م أقلعت الطائرة وبعد ساعتين ونصف تقريباً حططنا الرحال في مطار دبي لننتظر ساعة واحدة ريثما تقل (اليمنية) ركابها المتوجهين إلى كوالالمبور وجاكرتا وفي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل توجهنا الى ماليزيا بتوقيت صنعاء وما هي إلا ساعات حتى شعرت أن الطائرة وكأنها واقفة في مكانها ورغم طول الرحلة التي بلغت حوالي ثمان ساعات، إلا أننا لم نشعر بأي ازعاج أو ضيق أو توتر والفضل يعود إلى الخدمة المتطورة التي يقدمها طاقم الطائرة التي يقوده الكابتن سبيت الصيعري.

في حوالي الرابعة عصراً بتوقيت ماليزيا من يوم 25/8/2005م الحادية عشرة صباحاً بتوقيت صنعاء كان موعد وصولنا إلى مطار كوالالمبور الذي يدهشك بطرازه العمراني المتفرد ونظافته الفائقة وخدماته الراقية والهدوء الذي يهيمن على كل أرجائه، إذ أننا لم نشعر بأي تباطؤ في الإجراءات لا تفتيش ولاضوضاء إلا التي يحدثها أعضاء وفدنا من هول صدمة التقدم التقني وتطور الإنسان الذي يتعامل بسلاسة مع التقنيات الاحدث.

الدهشة الأكبر التي انتابتني ونحن نمرق الشارع الطويل وقد غادرنا منطقة المطار وبدأنا نتوغل في ضواحي المدينة التي تبعد عن المطار بحوالي ساعتين، حين رأينا التطور العمراني الهائل وحركة المرور السلسة والاخضرار الذي يعم كل بقعة من الارض والتقدم في كل شيء، كل هذا وماليزيا لا تملك ما تملكه دولة عربية واحدة من النفط، لكنها تملك العقل والعلم والديمقراطية والتآخي بين الأديان ومختلف الأعراق، الهدوء يحرك حياة متطورة تتقدم إلى أهداف مرسومة نحو آفاق أبعد، أناس يمشون بخفة، وجوه فيها من السماحة ما يبطن أشياء لا تدريها تخالها للحظة وكأنها ليست من الكوكب الذي أنت فيه. الشوارع الفسيحة الساطعة بالأضواء، السكينة التي ترفل فيها الأماكن، دبيب السيارات التي أخرست من آلات التنبيه، القطارات، الميترو، الدراجات الكثيرة التي لا يركبها إلا من وضع الخوذة فوق رأسه، الأسواق الممتلئة بالبشر التي تعرض بضاعتها بشكل يجذب الشاري، الحوار المتبادل بطريقة مهموسة، السيارة التي تبتعد عن الأخرى بأكثر من ثلاثة أمتار.

لم تحتجب الشمس بعد في ذلك اليوم حين حططنا الرحال في (كورس أوتيل) القريب من الأبراج الشهيرة.

ما تبقى من يوم 25/8/2005م خلدنا فيه للراحة لساعات، ثم شمرنا عن عزائمنا وتفرقنا كل ذهب إلى حال سبيله، تجولت مع بعض الزملاء في الشوارع والميادين. انددسسنا بين الملاويين والهنود والصينيين والعرب وبين مختلف الأجناس، ركبنا الميترو ورأينا كيف يفعل الناس وكيف يتعاملون ولم ندر كيف انضبطنا والتزمنا بما يلتزم به سكان البلد من نظام في حركة السير وحجز التذاكر والتعاطي مع الآخر، فصدق من قال إن النظام وغير النظام لا يخلقه سوى السلوك الجمعي.

في الأسواق الهندية والصينية طفنا وتفرجنا على المحال والمكتبات، البوفيهات و المطاعم، خمس ساعات بالتمام والكمال قضيناها دون أن نشعر بذلك التعب الذي عشناه وجئنا منه ونحن الذين ألفنا (القعدة) وركوب السيارة أو الحافلة حتى بين أحياء المكلا التي يمكن للمرء أن يقطعها راجلاً في دقائق. ابتعنا أشياء بهدف الذكرى رغم ارتفاع الأسعار بالنسبة لنا، أما بالنسبة للماليزي فلا يراها غالية، ولم لا؟ وأقل عامل أو مستخدم يقبض ألف دولار في الشهر.

عدنا إلى (كورس اوتيل) في الساعات الأولى من يوم 26/8/2005م لننعم بنوم هانئ، لكن النعاس لم يحالف جفوننا ورغم ذلك استيقظنا في الساعة الثامنة صباحاً وهو اليوم الذي يبدأ فيه افتتاح جلسات مؤتمر المغتربين من ذوي الأصول الحضرمية الذي دعت اليه الجامعة الاسلامية بماليزيا.

انتظرنا في صالة الفندق على أمل أن تأتينا وسيلة مواصلات تنقلنا إلى حيث ينعقد المؤتمر ولم نحظ سوى بسيارة صغيرة قامت بنقل الإعلاميين والمصورين، لكننا لم نستسلم، لم لا؟.. ونحن في ماليزيا مطبقين المثل الشبامي (إذا لم تعرف المكان افتح فمك) يعني اسأل.

ركبنا الميترو وكان برفقتنا أحد الطلاب العدنيين الذي أهدانا إلى المكان، بل أوصلنا إلى القاعة التي ينعقد فيها المؤتمر التي وجدناها ممتلئة بالعشرات من ذوي الوجوه المألوفة التي خاطبناها باللغة العربية، فأجابت باللغة الملاوية الممتزجة بالمفردات العربية والهندية والإنجليزية.

كانت جلسة الافتتاح عبارة عن جلسة خطابية من قبل رئيس الجامعة الإسلامية ومديرها، وأهم الكلمات هي التي ألقاها حامد البار وزير خارجية ماليزيا التي عدد دور الحضارم في تطوير ماليزيا والدفاع عن استقلالها وقال: إن الحضارم هم أصل السكان ودورهم ريادي في تطويرها وتحريرها وبنائها.

في الساعة الثانية عشرة ظهرا انفضت الجلسة الافتتاحية لتناول طعام الغذاء وأداء صلاة الظهر وفي الثانية بعد الظهر استؤنقت الجلسات في قاعة أخرى تحدث فيها عدد من الماليزيين والعرب وبعض الغربيين عن دور العرب الحضارمة في جنوب شرق آسيا وعلى وجه الخصوص في الهند وأندونيسيا والفلبين، في كل أوجه الحيوات السياسية والاقتصادية والثقافية ومن ضمن المحاور دور الصحافة الحضرمية خاصة والعربية عامة التي صدرت في هذه البلدان باللغة الملاوية والعربية والجاوية والسندونيسية والمادورية والاسنية إلى جانب الكتابات الأدبية والدعوية، ثم تتالت الجلسات الى يوم 28/8/2005 يوم الاختتام.

وعلى هامش المؤتمر قدمت فعاليتان فنيتان الأولى بعد الاختتام شاركت فيها فرقة الغناء بتريم وقدمت خلالها عددا من الاناشيد الدينية والصوفية وفرقة الفنون الشعبية التابعة لمكتب وزارة الثقافة بحضرموت بعدد من الأغاني والرقصات الشعبية، أما الثانية فقدمت في (عين العرب) بمناسبة افتتاح حي العرب بكوالالمبور، إلى جانب عدد من الفرق الفنية مـن مـاليزيا وسوريا والأردن والسعودية.

من أهم المناطق التي زرناها هي (ملاكا) أو ملقى وهي مدينة تقع على البحر وهي المنطقة التي نزل فيها الحضارم أول مرة ومنها توزعوا في أصقاع جنوب شرق آسيا وشاهدنا فيها المسجد بجانب معبدي البوذية والهندوسية والتقينا بعدد من ذوي الأصول الحضرمية داخل المسجد منهم أل بامنصور وباجرى وصلينا سوياً صلاة الظهر.

كانت زيارة ممتعة ومفيدة وكان دور سفارتنا طيباً لولا الليلة الأخيرة التي تركتنا فيها في مهب الريح عندما تركنا نواجه مصيرنا لوحدنا ولولا أحد طلابنا لتفرقنا وتهنا نبحث عن ملاذ لأن أعضاء الوفد كادوا أن يهيموا في الشوارع للبحث عن ملاذ لعدم إرسال وسيلة تنقلنا من الفندق إلى المطار لكي نغادر.

ماليزيا جمعت بين أصالة الشرق وروحانيته وبين الحضارة الغربية. وهي تحاول أن لا يتغلب الماضي على الحاضر أو العكس.

لكننا لا ندري كيف ستؤول الأمور والغرب يزحف بماديته وثقافته التي تؤثر حتماً على المجتمع الذي يفقد فيه الإنسان إنسانيته وتحوله إلى شيء، فهل تنجح المعادلة الماليزية؟

الشيء الذي خرجنا به هو أن ماليزيا حددت طريقها ليس كمثل الدول العربية لا هي تمسكت بأصالتها ولا هي اختارت نموذج الحضارة الغربية مع حفاظها على قيمها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى