قبل تعريب العلوم

> حسام محمد سلطان:

> لا أشك لحظة في أن دعاوى تعريب العلوم دعاوى صادقة وغيورة صادرة من أناس ترقوا درجات العلم والمعرفة ووصلوا فيها إلى مستويات عالية جداً، فتحركوا بدافع من ضمير حي وغيرة على أمتهم التي لا تزال تهوي في وديان الجهل منذ عدة قرون بهدف الخروج بها من ظلمات الجهل نحو آفاق العلم الرحبة. كما لا يستطيع أحد أن يشكك بأهمية اللغة كوسيلة أولى لتلقي العلوم والمعارف، فإذا كانت العلوم لا تنال إلا بدراسة لغة أجنبية كان ذلك معوقاً رئيسياً للتلقي والتطوير ناهيك عن الإبداع والتواصل مع باقي الامم أخذاً وعطاء.

موضوع تعريب العلوم أخذ حيزاً لا بأس به من النقاش والجدل منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم، ما بين مؤيد بحجة أن تقدم الأمة العلمي والتقني مرتبط بالتعريب وما بين معارض يرى أن التعريب بشكله الحالي لا يشكل سوى عائقاً رئيسياً أمام هذا التطور المنشود، ولكل فريق حججه وبراهينه العلمية والتاريخية. لعل أحد أكبر المشاكل والمعوقات الرئيسية أمام مشروع تعريب العلوم في رأيي هو الخلط ما بين تعريب العلوم وترجمة العلوم، والاستناد في ذلك إلى أن آباءنا وأجدادنا رواد الحضارة الإسلامية الأوائل قاموا بترجمة علوم من سبقهم من اليونانيين والإغريق ومن ثم تطويرها وإضافة قفزات نوعية في مختلف العلوم الإنسانية والتقنية والطبية، فكان من شأنهم ما كان مما لا يستطيع أحد إنكاره. ثم جاء الغربيون وترجموا الكتب العلمية العربية وحملوا لواء تطويرها بعد أن تخلف عنه العرب والمسلمون لأسباب متعددة.

ترجمة العلوم من لغاتها الأم إلى العربية هو جانب واحد من عدة جوانب أكثر أهمية يجب مراعاتها والاهتمام بها قبل البدء بمشاريع التعريب وعند النظر إلى ما قام به أباؤنا وأجدادنا في الماضي السحيق ولعل أهم هذه الجوانب هي إعادة النظر في طريق ومناهج تعليم اللغة العربية نفسها من السنوات الأولى في عمر الطالب إلى أن يصل إلى نهاية مرحلة العربية التي ندرسها في المدارس شديدة الجفاف والتعقيد تدرس من أجل أن يفهم الطالب الشعر الجاهلي والحديث والنصوص النثرية لا من أجل أن يستخدم اللغة كوسيلة للتعبير اولاً.. اللغة في نهاية الأمر هي وسيلة تخاطب وتواصل وتعبير عن الذات والفكر قبل أن تكون وسيلة لكتابة النصوص الأدبية والشعرية، إحدى مشكلاتنا كأمة أننا لا نستطيع الفكاك من الشعر والشعراء ولعل إصدارات دور النشر العربية خير شاهد على ذلك.

تعريب العلوم بحاجة قبل الترجمة إلى تعريب الظروف والمناخات السياسية المستقرة والآمنة التي تساعد العقل العربي على الإبدع في ظل استقرار سياسي واقتصادي يؤمن للعالم والباحث العربي فرص العيش الكريم، ويهيئ له الظروف الملائمة بعيداً عن الجري وراء اللقمة والرغيف، العقل العربي في هذا الزمان مشغول بفك طلاسم الفساد من حوله ومشغول بالتفكير بالهجرة إلى دول ترعى العلماء والمفكرين وتحترم التخصصات وتقدر العلم وأصحابه ولا تزدريهم.. ولكن ماذا نقول عن دول كاد الجهل فيها أن يصبح أحد العلوم، وأصبح الجاهلون فيها منظرين؟

أشعر بالفخر عندما أقرأ أو أسمع كلمات أجنبية ذات أصول عربية، وما أكثرها، وأشعر كذلك عندما أرى نظماً سياسية أجنبية استمدت روح تشريعاتها من حضاراتنا البائدة. جهود ترجمة الكتب العلمية الأجنبية والنشرات والدوريات جهود لا شك محمودة وستؤتي أُكُلها يوماً ما، أسال الله أن يبارك فيها وأن يشد على أيدي القائمين عليها، ولكن حبذا لو أعطينا بعض الاهتمام لتعريب النظم السياسية التي ترعى العلوم وتحتفي بالعلماء قبل ذلك أو حتى معه.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى