الجمعيات الإسكانية والفريضة الغائبة

> «الأيام» د. محمد عمر باناجه:

> توطئة بعد الانتقال المفاجئ من نمط الاقتصاد الموجه إلى نمط اقتصاد السوق، وتخلي الدولة عن دورها في بناء المشاريع الإسكانية، كان لا بد من التفكر بإيجاد البديل الملائم لظروف اقتصاد السوق، الذي يمكن عبره أن يتم تأمين المسكن المناسب - بيئياً واقتصادياً - لموظفي الدولة وذوي الدخل المحدود.

فكانت الفكرة الإسكان التعاوني، وجاء المخاض في عدن - العاصمة الاقتصادية والتجارية - بولادة أول جمعية إسكانية في اليمن، تلتها عملية دؤوبة وحماسية في إنشاء الجميعات الإسكانية لموظفي الدولة في مدينة عدن، حتى وصل عددها خلال عامي 91-1993 فقط إلى 152 جمعية إسكانية، بلغ عدد المسجلين في عضويتها 41688 شخصا(«الأيام» 29/9/2005م).

ومنذ عام 1990م وحتى يومنا هذا لم تتبنّ الدولة أي مشاريع إسكانية، حيث أصبح الأمل معقوداً في هذا المضمار على الجمعيات الإسكانية. بيد أن الفهم القاصر لدور الدولة في ظل اقتصاد السوق الذي شاع حينه، ولا زال شائعاً في طروحات البعض، حال ليس فقط دون قيام الحكومة بتشييد بعض المشاريع الإسكانية لذوي الدخل المحدود بصيغة استرداد القيمة، بل حال أيضاً دون مساهمتها برعاية وتنشئة هذا المولود الجديد (الإسكان التعاوني) كنوع من أنواع العمل التعاوني الذي أقره الدستور كأحد صور الملكية في المجتمع اليمني، فضلاً عن كونه صيغة اقتصادية اجتماعية ديمقراطية تسهم عبر قاعدتها العريضة في عملية التنمية والنهوض بالمجتمع.

وبالرغم من صرف عقود الانتفاع بالأراضي المخصصة للجمعيات، إلا أن فكرة الإسكان التعاوني ظلت طيلة عقد ونصف من الزمن تراوح بطون الوثائق والعقود، بعد أن عجزت الجمعيات - بما فيها تلك ذات الأرصدة المالية الضخمة - عن تحقيق حلم أعضائها بتحويل مشروع الإسكان التعاوني من مجرد حبر على ورق إلى مساكن على أرض.

والدولة، وإن لم تئد الفكرة، إلا أنها وللأسف الشديد لم تتحمس إلى تحويلها إلى فعل ملموس. ويتجلى ضعف حماس الدولة- بل يحق لنا أن نقول تقصيرها - تجاه الإسكان التعاوني بتخليها عن خلق المقومات الضرورية لانطلاقته، التي تكاد تكون من بين أهمها على الاطلاق، مسألتا التشريع والتمويل. أما التشريع، فأمره واضح ويسير. فليس هناك ما يمنع من إصدار قانون بشأن العمل التعاوني، أو بشأن الإسكان التعاوني تحديداً. أما التمويل، فإنه قد يقف وراءه إشكالية فكرية (ايويولوجية) حسب اعتقاد البعض، الذي لم يع بعد أنه حتى في ظل اقتصاد السوق، فإن الدولة يجب عليها - دستورياً- أن ترعى العمل التعاوني عموماً، والإسكان التعاوني خصوصاً، عبر تبني صيغة من صيغ التمويل التي تتلاءم مع قواعد اقتصاد السوق. فبدون التشريع والتمويل يضحي الحديث عن الجمعيات الإسكانية لا معنى له .. حديثا ليس فقط يدغدغ عواطف الناس، بل إنه لا يحترم عقولهم ويعرض أراضي الجمعيات للاستباحة. لذلك، ينبغي أن يدرك الجميع أنه ما لم تسهم الدولة برعاية الإسكان التعاوني وتؤمن المقدمات الضرورية لانطلاقته في حدود الخيارات التمويلية المتاحة في اقتصاد السوق، التي لا تتعارض مع قواعده كما يعتقد البعض، بل تعمل على تحفيزه ورفع كفاءته، فإن أزمة السكن لن تنفك من إعادة إنتاج نفسها مراراً وتكراراً. ليكتشف الجميع لاحقاً (حكومة ومواطنين)، أننا لسنا أمام أزمة سكن فحسب، بل أمام كارثة اجتماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

إذن ما هو الحل بعد أن باءت بالفشل محاولات لتأمين التمويل اللازم لأعمال البناء في الجمعيات الإسكانية؟!

مما لا شك فيه، أن آفاق البحث عن ممكنات الحل رحبة. وما كان علينا إلا طرق أبواب التفكير- التي ظلت موصدة حيناً من الدهر- لنخرج بهذه الرؤية المتواضعة، التي لا أزعم أنها الممكن الوحيد لحل إشكالية التمويل لمشاريع الجمعيات الإسكانية، فهي إنما تأتي في سياق ما هو متاح من الممكنات لحل تلك الإشكالية. فإليكم خلاصة الرؤية في ثلاثة مكونات:

1- الفكرة
تتمثل الفكرة الأساسية لرؤيتنا في ممكنات حل إشكالية التمويل لمشاريع الجمعيات الإسكانية، بإنشاء جهاز لتمويل مشاريع الإسكان التعاوني عن طريق المساهمة والاكتتاب العام. بحيث يدار بأسلوب إدارة شركات المساهمة وفقاً ومتطلبات قانون رقم 22 لعام 1997 بشأن الشركات.

وتتحدد تسمية الجهاز التمويلي المقترح انطلاقاً من طابع العمل الذي سيتسم به. فإن رغبنا بإضفاء طابع العمل المصرفي على هذا الجهاز، فإنه في هذه الحالة يمكن أن نطلق عليه اسم بنك الإسكان التعاوني. أما إذا أضفي عليه طابع عمل شركات التمويل فيمكن أن يطلق عليه اسم شركة تمويل مشاريع الإسكان التعاوني.

وأي من الصيغتين المتفق حولها تستلزم بعض المتطلبات الضرورية التي ينبغي التهيئة لها قبل وأثناء التأسيس، كدراسة الجدوى ومشروعي العقد التأسيسي والنظام الأساسي.

2- كيفية تكوين رأس المال
لإدراكنا المسبق بعدم مقدرة الأرصدة المالية المتراكمة لدى جميع الجمعيات الإسكانية بمحافظة عدن على تكوين رأس المال المدفوع للجهاز التمويلي المقترح، فإننا نرى أنه من الضروري أن تساهم وحدات اقتصادية أخرى في تكوين رأس المال. تكون في مقدمتهم، بعد الجمعيات نفسها، الحكومة والوحدات الاقتصادية الحكومية المستقلة، ونقترح أن تتوزع حصص المساهمة في رأس المال المدفوع، على النحو الآتي:

- 30% - الجميعات الإسكانية، عن طريق تخصيص 50% من رصيد كل عضو في كل جمعية كشرط لاكتساب العضوية، وإذا لم تغط مجموع تلك الأرصدة حصة 30% من رأس المال المدفوع، يتاح لأعضاء الجمعيات- بصورة طوعية وبصفة شخصية- شراء أسهم، لتغطية هذه الحصة.

- 20%- الحكومة (الهيئة العامة للمعاشات والتأمينات، البنك المركزي اليمني...إلخ).

- 10%- إدارة محافظة عدن من مواردها المحلية المدخرة في أحد صناديقها.

- 20%- البنك الأهلي اليمني، وأي بنوك تجارية أخرى ترغب بالمساهمة (شراء أسهم).

- 10%- الاكتتاب العام للأفراد من غير الأعضاء في الجمعيات الإسكانية.

- 10% - الاكتتاب العام لوحدات اقتصادية تابعة للقطاع الخاص.

وإن تعذر تكوين رأس المال على ذلك النحو المقترح في بادئ الأمر عند التأسيس- نظراً لحداثة ومحدودية انتشار أسلوب الاستثمار المالي في اليمن، مما قد يبرر تخوف بعض الأطراف من الاستثمار بالأسهم، فإننا نقترح أن تتوزع حصة المساهمة في تكوين رأس المال- عند التأسيس- بين الجميعات الإسكانية والحكومة بنسبة 30% ،70% وذلك لدعم الفكرة في مرحلة التأسيس. وبإمكان الحكومة بعد إنشاء سوق الأوراق المالية، وانتشار الاستثمار بالأسهم والسندات أن تقوم ببيع أسهمها(كلها أو جزء منها) للجمهور - أفرادا ومؤسسات - شريطة أن لا تزيد حصة التملك للأسهم لجهة واحدة عن 20% من أسهم الحكومة المعروضة للبيع.

أما ما يتعلق بقيمة رأس المال الاسمي والمدفوع، وقيمة السهم الواحد، ومقدار الأسهم التي يمكن للوحدة الاقتصادية أو الفرد تملكها، فتلك متطلبات قانونية وردت في قانون رقم 22 لسنة 1997م بشأن الشركات، وستحدد تبعاً لذلك في العقد التأسيسي والنظام الأساسي للجهاز المقترح، بنكاً كان أم شركة.

3- منطلقات ومبررات الفكرة
مما لا شك فيه، أن أية رؤية (فكرة) ما لم تجد ما يبررها، فإنها لا ترقى إلى موجبات تسميتها برؤية. فإن كانت الرؤية (الفكرة) اقتصادية، فإنه من الطبيعي أن تبرر نظرياً، اجتماعياً واقتصادياً.

وهكذا كان الأمر بالنسبة لرؤيتنا التي تأتي في سياق البحث عن ممكنات حل إشكالية التمويل في الجمعيات الإسكانية، فإنها تجد ما يدعمها في عدد من المبررات، التي نعرض أبرزها بإيجاز في الآتي:

أ- نظرياً:
إن درجة كفاءة اقتصاد السوق تتحدد بمساحة الحرية الاقتصادية الممارسة في نطاق السوق، التي تتيح للجميع بمن فيهم شرائح العاملين بأجر، صغار المدخرين، وحتى الأفراد والفئات المهمشة اقتصادياً، بأن يحرروا تفكيرهم من القيود التي وجدوا أنفسهم مكبلين بها، وأن يبتدعوا الأفكار والأساليب والأشكال الأقتصادية التي تمكنهم من تحقيق مصالحهم الجمعية في إطار الترتيبات المجتمعية المنضوين فيها، وتنمية مواردهم المحدودة، وتأمين مصادر دخل متدفقة لمدخراتهم الصغيرة.

نفهم من ذلك أنه لا يكفي أن يكون لدينا نص دستوري حول طبيعة النهج الاقتصادي، كما لا يكفي أن تتحدث الحكومة مراراً وتكراراً عن اتباعها اقتصاد السوق. فلن يجدي نفعاً أن تقوم الحكومة بتحرير الاقتصاد دون أن تخلق مقومات توسيع نطاق الحرية الاقتصادية في السوق وحمايتها. فاقتصاد السوق ليس رغبة وحسب، كما أنه ليس ادعاء وثرثرة خطابية، بل هو نظام له قواعد وأسس ما لم تتبع فإنه - بدون شك- لن يعمل بكفاءة. ورفع درجة كفاءة اقتصاد السوق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى فعالية السياسات والتدابير التي تتخذها الحكومة بهدف توسيع نطاق الخيارات أمام كل فئات المجتمع، وبالأخص أولئك الذين يفتقرون للموارد اللازمة ورؤوس الأموال، وتمكينهم منها. حتى وإن اقتضى الأمر قيام الدولة بإقراضهم أو ضمان إقراضهم في إطار الترتيبات المجتمعية المنضوين فيها.

إن الاستيعاب الصحيح لمفهوم اقتصاد السوق- على النحو السالف- يشكل المنطلق الفكري الداعم لرؤيتنا في ممكنات حل إشكالية تمويل الإسكان التعاوني.

ب- اجتماعياً:
إن محافظة عدن - العاصمة التجارية والاقتصادية - تتميز عن معظم محافظات الجمهورية بارتفاع مؤشرات الكثافة الإسكانية (عدد الافراد في المسكن الواحد) فإذا كان هذا المؤشر حسب بيانات إحصاء 1994 كان قد سجل في محافظة عدن 5,2 فرد/مسكن، فإنه وفق آخر إحصاء سكاني عام (2004م) قد ارتفع إلى 6,5 فرد/مسكن. وخطورة الوضع الإسكاني بالمحافظة لا تظهر فقط بارتفاع قيمة هذا المؤثر بل تتدجلى أكثر بارتفاع معدلات نموه التي سجلت في الفترة ما بين تعدادي (1994-2004م) حوالي 20%. وبافتراض أن هذا المعدل لم يتغير خلال السنوات العشر القادمة فإن مؤشر الكثافة الإسكانية بالمحافظة قد يصل إلى 7,8 فرد/مسكن، إذا لم تشهد المحافظة توسعاً في العرض العقاري الملائم لمداخيل أصحاب الطلب، أكان بيعاً أو تأجيراً. لأن ما حدث من توسع في العرض العقاري خلال الفترة الماضية لم يخلق الطلب المقابل له لكون معظمه من نوع الإسكان الفاخر أو الفندقي الذي لا يتلاءم لا من حيث القيمة ولا من حيث الإيجار مع مداخيل أصحاب الطلب بمحافظة عدن التي يشكل فيها العاملون بأجر (أصحاب الدخل الثابت) أكثر من أربعة أخماس إجمالي قوة العمل. ألا تستدعى - إذن - تلك المؤشرات، زحزحة مشروعات الجمعيات الاسكانية من المراوحة في مكانها والانتقال بها من التفكير الانفعالي الموجه لدغدغة العواطف إلى التفكير العملي الذي يساهم بحل المشكلات قبل استفحالها؟!

ج- اقتصادياً:
تتجلى المبررات الاقتصادية للرؤية بصورة واضحة في المنافع المتعددة التي ستنجم عن إنشاء جهاز التمويل المالي المقترح وتلك المنافع يتوقع أن يجنيها، ليس فقط الأطراف ذوو العلاقة بالجهاز (المستفيدون+ المساهمون)، بل الاقتصاد الوطني برمته.

فأعضاء الجمعيات الإسكانية سيجنون ثمار انتظارهم وصبرهم الطويلين. وسيزاح عن كاهلهم رزء أعباء الكثافة الإسكانية، أو الإيجارات الباهظة التي تلتهم جزءا كبيراً من دخولهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأسهم التي سيتملكونها ستدر عليهم دخلاً إضافياً من خلال الأرباح الصافية التي ستتحقق في محصلة النشاط السنوي للجهاز، وستوزع لحاملي الأسهم بحسب حصة كل منهم منها. أما المساهمون من غير الأعضاء في الجمعيات الإسكانية، أكانوا أفرداً أم وحدات اقتصادية فسيفتح الجهاز - المقترح - أمامهم مجالاً لاستثمار أرصدتهم المالية المتراكمة، مع ضمان استدرار دخل سنوي عليها بحسب صافي الأرباح وحجم الأسهم التي يمتلكونها. كما أنهم سيتمكنون مستقبلاً من تحقيق مكاسب رأسمالية على أسهمهم عند المتاجرة بها في سوق الأوراق المالية المزمع إنشاؤها، التي يعد جهاز التمويل المقترح- بنكاً كان أم شركة - أحد ركائزها الأساس.

تأمين تمويل مشروعات الإسكان التعاوني، يعني إدخال مساحة سكنية تقدر بحوالي (8,337,600 متر مربع) إلى حيز البناء. الأمر الذي ينعكس في انتعاش عدد من قطاعات الاقتصاد الوطني ذات العلاقة بتصنيع أو استيراد المستلزمات المطلوبة للبناء (الأسمنت، التوصيلات الكهربائية، تركيبات امدادات المياه والصرف الصحي، حديد البناء.. الخ) كما أنه سينعش القطاع المصرفي، لما سيترتب على المقاولين المنفذين لأعمال البناء من التزامات تستدعي - غالباً- اللجوء للاقتراض من القطاع المصرفي. وفي السياق ذاته، سينعكس الأمر إيجابياً بصورة غير مباشرة على عدد من قطاعات الاقتصاد الوطني الأخرى، كقطاع الخدمات، الضرائب.. الخ. ومما لا ريب فيه، أن الانتعاش الذي ستشهده القطاعات الاقتصادية سيفضي -حتماً- إلى ارتفاع الطلب على قوة العمل في سوق العمل اليمنية، وتأمين فرص عمل جديدة لعدد واسع من العمالة العادية والماهرة والمتخصصة.

تلكم هي - بإيجاز - خلاصة رؤيتنا في ممكنات حل إشكالية التمويل لمشروعات الإسكان التعاوني بمحافظة عدن، وإذا كان للرؤية تفاصيل أخرى فإنني قد ارتأيت عدم الخوض فيها هنا، لأنها قد لا تهم إلا الاختصاصيين، وذوي الشأن بتبني الرؤية، إن هم استجابوا.

خاتمة
بعد توحد الدولتين الألمانيتين، ألمانيا الاتحادية (الغربية) وألمانيا الديمقراطية (الشرقية)، بنيت في مدن ألمانيا الشرقية 1,5 مليون وحدة سكنية بفضل الإعفاءات الضريبية على مواد البناء وعلى الدخل!! فهل نحن فاعلون؟!!

أستاذ مشارك الاقتصاد المالي والنقدي جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى