«شهر العسل» الديمقراطي بين اليمن والغرب هل اقترب من نهايته؟

> د. محمد علي السقاف:

>
د. محمد علي السقاف
د. محمد علي السقاف
1- موقف الولايات المتحدة الأمريكية...الضجة واسعة النطاق التي أثارتها عبارة السفير الأمريكي في صنعاء السيد توماس كراجسكي قوله عن :«توقف تقدم الديمقراطية في اليمن» في لقائه مع صحيفة "الأيام" المنشور بتاريخ 6 أكتوبر، هل جاءت تلك العبارة نتيجة خطأ في ترجمة حديثه من الإنجليزية إلى العربية حسب ما صرح به السفير لاحقاً ونفيه قوله تلك العبارة، أم إنها صحيحة ومقصودة لإثارة الجدل الإعلامي حولها، والتي من دون قولها لربما مر اللقاء الصحفي مرور الكرام.

فمهنية السفير وخبرته الطويلة في المنطقة بجانب مهنية صحيفة «الأيام» التي نشرت اللقاء لا ترجح إمكانية وجود خطأ في الترجمة. ومع ذلك سارع السفير لاحتواء الضجة التي أثارها تصريحه بالتأكيد على أنه لم يستعمل عبارة توقف تقدم الديمقراطية في اليمن، وإنما قصد القول بأن الديمقراطية في اليمن قد واجهت بعض التباطؤ. وبسذاجة بالغة استقبلت الأوساط الرسمية والصحفية التابعة لها تصويب السفير لعبارته بارتياح كبير، وبخيبة أمل لدى أطراف من المعارضة، في حين أن «التصويب» أو النفي اقتصر فقط على عبارة «توقف تقدم الديمقراطية»، ولم ينف السفير بقية تصريحاته لصحيفة «الأيام»، التي انتقد فيها صراحة تراجع الحريات الصحفية في اليمن وطرح قضايا أخرى مهمة. وكانت صحيفة «الثورة» الرسمية في افتتاحيتها بتاريخ 10 أكتوبر الحالي شنت تحت عنوان «لا نقبل الوصاية» هجوماً على عبارة السفير (قبل نفيه لها)، أبرزت فيه «التناقض» الصارخ بين خطابه الناقد وبين مواقف الإعجاب والإشادة التي يبديها المسؤولون الأمريكيون في واشنطن لتجربة اليمن الديمقراطية، وطالبت السفير بالتزام حدود مهامه في تعزيز أشكال التنسيق والتعاون القائم بين البلدين «لأن ذلك هي مهمته الرئيسية وليس غيرها». والظريف في هذه الفقرة من التعليق أن الافتتاحية اعتبرت تصريحات السفير تدخلاً في الشأن الداخلي لليمن، وفي الوقت نفسه حددت للسفير طبيعة مهامه في اليمن دون أن ترى في ذلك تدخلاً في شأن الجهة التي يمثلها والتي يقع عليها تحديد مهامه، ومن جانب آخر اعتبرت افتتاحية «الثورة» انتقادات السفير شخصية لا تعبر عن وجهة نظر بلاده المشيدة بتجربة اليمن الديمقراطية، فإذا كان هذا التعليق صحيحاً كيف يمكن تفسير تصريحات سفراء غربيين آخرين أدلوا بها قبل وبعد تصريحات السفير الأمريكي، انتقدت فيها أيضا تردي الأوضاع الداخلية في اليمن في مجال الحريات الصحفية وحرية التعبير؟

نتناول أولاً موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الأوضاع اليمنية، ثم نتعرض لانتقادات سفيري هولندا وبريطانيا وممثل الاتحاد الأوروبي في اليمن.

أولاً: تصريحات السفير كراجسكي، هل هي رأي شخصي أم تعبير عن موقف بلاده ؟

عبارة «توقف تقدم العملية الديمقراطية في اليمن» وهي «العبارة اللغم التي فجرت الأوضاع» حسب تعبير الزميل نجيب اليابلي في «الأيام» العدد (4616) هل توحي بحداثة خبرة السفير في أسلوب التعامل مع تقاليد دول المنطقة، وعدم معرفته الكافية بحساسيتهم المفرطة أمام استعمال بعض المفردات أم العكس هو الصحيح الذي جعله يتعمد استعمال تلك العبارة ؟ هل انتقاداته لسجل حرية الصحافة وحرية التعبير في اليمن رأي شخصي أم يعكس رؤية واشنطن إزاء ما يحدث في اليمن ؟ إذا كان الافتراض الأخير هو الصحيح، لماذا جاءت انتقاداته مغايرة لمواقف سلفه السفير أدموند هول، الذي لم يكف في جميع تصريحاته عن الإشادة والتعبير عن نموذجية التجربة الديمقراطية في اليمن لدول المنطقة، هل هذا الاختلاف هو اختلاف بين شخصيتيهما، أم يعود إلى اختلاف توجهات السياسية الأمريكية نحو اليمن والشرق الأوسط الكبير؟ للإجابة عن هذه التساؤلات سنبدأ حسب تسلسلها باستعراض سريع للسيرة الذاتية للسفيرين أدموند هول وتوماس كراجسكي للوقوف على خبراتهما السابقة قبل تعيينهما سفيرين في اليمن لبلدهما، ثم نقوم بالرد على بقية التساؤلات.

القواسم المشتركة ونقاط الاختلاف بين كراجسكي وهول:

بعكس ما يحدث في بعض بلدان العالم الثالث ومنها اليمن على وجه الخصوص لا يتم إرسال سفراء الدول المتقدمة إلى الخارج دون امتلاكهم تاهيلاً علمياً رفيع المستوى، وخبرة كافية لعدة سنوات في السلك الدبلوماسي.

ووفق الأسطر القليلة التي نشرتها بعض الصحف اليمنية عن السيرة الذاتية للسفيرين، يتبين مستوى تأهلهما الأكاديمي في تخرجهما في جامعات أمريكية عريقة، كلاهما يجيد ثلاث لغات عالمية على الأقل منها اللغة العربية التي درساها لمدة عامين، قاسمهما المشترك عملهما في مكتب شؤون الخليج (إيران والعراق) في دائرة شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية، والقاهرة واحدة من محطات عملهما، ومشاركتهما في مراحل مختلفة حول مفاوضات النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ضمن المساعي الأمريكية في تقريب وجهات نظر الأطراف المتنازعة. خبرة كل منهما لا تقل عن عشرين عاماً في العمل الدبلوماسي. أما بخصوص نقاط الاختلاف بين السفيرين فإن مقابل إجادة أدموند هول اللغة الفرنسية، فالسفير كراجسكي تعلم اللغة والأدب الروسي في جامعة مساتشوشيا، وبذلك من ناحية اللغة لديه قاسم مشترك مع كل من مستشاري الأمن القومي السابقين البروفيسور لزبيجنو بريجنسكي (مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارثر) وهو أيضا مثله من أصول بولندية، وكونداليزا رايس(مستشارة الأمن القومي السابقة للرئيس بوش ووزيرة الخارجية حالياً). أما اختلافهما على مستوى الخبرة الدبلوماسية، فالسفير السابق أدموند هول عمل قائماً بأعمال المنسق العام لمكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية وهذا ما يفسر توقيت تعيينه سفيراً للولايات المتحدة في صنعاء مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 (أكتوبر 2001-يوليو 2004 ) وتتميز خبرة السفير الحالي عن سلفه برغم مسمى وظيفته كقنصل عام للولايات المتحدة الأمريكية في دبي، وعضويته في المجلس التجاري الأمريكي في دبي أيضا لمدة أربع سنوات شاهد فيها ميدانياً دور وأهمية القطاع الخاص في تنمية وازدهار دبي، وهو ما قد تستفيد منه مدينة عدن من خبرته في دبي في تشجيع رجال الأعمال والشركات الأمريكية للاستثمار فيها. ونقطة الاختلاف الأخرى مع أدموند هول أن السفير كراجسكي عمل في القسم الإعلامي لوزارة الخارجية الأمريكية في عام 1985م، وهذه دون شك أكسبته خبرة في طريقة التعامل مع الصحفيين وأجهزة الإعلام الأخرى، وفي كيفية استعمال الإعلام في تحقيق أهداف سياسة بلاده الخارجية. من هنا تساؤلنا في بداية المقالة، هل استعمال السفير كراجسكي عبارة توقف تقدم الديمقراطية ناتج عن خطأ في الترجمة كما ذكر ذلك، أم أنه تعمد استعمال تلك العبارة عن سبق إصرار لعلمه أنها ستثير ضجة إعلامية حولها لمعرفته المسبقة ما يجذب الصحفيين والإعلاميين، وهو ما يسميه الفرنسيون واشتهروا بها "les petites phrases"(العبارات الصغيرة) التي أبدع في استعمالها السيد ميشيل جوبير، وزير خارجية فرنسا في فترة الرئيس جورج بومبيد مثل عبارته الشهيرة رداً على أسئلة الصحفيين الذين أرادوا استفزازه أثناء اندلاع حرب أكتوبر 1973م وسألوه عن رأيه في «العدوان المصري» على إسرائيل؟ وأجابهم: «هل يمكن اعتباره عدواناً حين تطأ قدمي الإنسان أرض وطنه؟».

فإذا كان هذا الافتراض الأخير صحيحاً يمكن للسفير الأمريكي أن يعتبر نفسه أنه حقق نجاحين في آن واحد، فمن جهة أثار الضجة الإعلامية حول تصريحه، وفي الوقت نفسه حصل على الدليل القاطع على عدم قبول السلطة أي انتقاد لسياستها تحت ذرائع واهية. بالنسبة للسفير الأمريكي اعتبرت عبارته المذكورة تدخلاً في الشؤون الداخلية لليمن وخروجاً عن مهامه، وبالنسبة للكتاب وأصحاب الرأي الذين يخالفون وينتقدون سياسة بلادهم يتهمون بأنهم إما انفصاليون، أو مناطقيون، أو محسوبون على الوطن وعملاء لأطراف أجنبية، يختف انتقاء الشتائم حسب الجهة الموجهة لها، لكن جميعها تنم عن عقلية سلطة ترفض أي انتقاد أو رأي مخالف لسياستها، وهذا درس يجب أن يكون قد استوعبه السفير الأمريكي، وإن كان هو في الحقيقة الذي أعطاهم الدرس بطريقته حيث عدل شكلياً في تصريحه دون أن يغير جوهريا مضمون انتقادات بلاده لسياسة اليمن في نطاق الحريات العامة، كما سنرى ذلك بعد قليل. وفي مجال اختلاف وتمايز السفيرين نشير إلى تجربة كراجسكي وعمله في العراق مستشاراً سياسياً من يوليو حتى أكتوبر 2004م مع بول بريمر الحاكم المدني للعراق بعد أن أدخلت واشنطن تغييرات على الإدارة الأمريكية في العراق (مايو 2003م) ليكون بريمر المسؤول الأول على أن يعمل جاي غارنر المسؤول السابق عن العراق تحت إمرته، واللافت للنظر هنا هذا التقاطع في التعيينات للدبلوماسيين الأمريكيين بين صنعاء وبغداد، فالسفيرة باربرا بودين التي كانت سفيرة الولايات المتحدة في صنعاء حتى سبتمبر 2001 تقلدت منصب المنسقة الأمريكية لوسط العراق وبغداد لفترة نحو شهر تقريباً، وتزامن استدعاؤها لمنصب جديد في واشنطن مع وصول بريمر في مايو 2003 إلى العراق، الذي كما أشرنا عمل معه السفير كراجسكي مستشاراً سياسياً لفترة أربعة أشهر، وتم تعيينه لاحقاً في أغسطس 2004 سفيراً في صنعاء.

كراجسكي وهول يعبران عن المراحل المختلفة للسياسة الامريكية

أنه لأمر يدعو للسخرية أن تتساءل صحيفة «الثورة» الرسمية إذا لم يكن هناك تناقض بين تصريحات كراجسكي «الناقدة» وتصريحات المسؤولين الامريكيين في واشنطن المشيدة بالتجربة الديمقراطية اليمنية، موحية بذلك أن السفير في عالم وسياسة بلاده في عالم آخر، وبالتالى فإن مواقف السفير إما هو واقع تحت تأثير المعارضة، أو مواقفه شخصية لا تعكس سياسية بلاده نحو اليمن!! وسنوضح فيما يلي عدم صحة هذا التحليل في مقارنة بين تصريحات هول وكراجسكي، وتباين تصريحات كراجسكي نفسه في محطتين مختلفتين من السياسة الأمريكية، فقدوم أدموند هول إلى اليمن (أكتوبر 2003 - يوليو 2004) ارتبط بتركيز السياسة الامريكية على محاربة الإرهاب بالوسائل الأمنية، كواحدة من تداعيات 11 سبتمبر 2001، بينما قدوم توماس كراجسكي إلى اليمن في أغسطس 2004، بعد اعلان بيان مجموعة الدول الثماني في اجتماع سى أيلاند جورجيا(يونيو 2004) حول الشرق الأوسط الكبير، لنشر الديمقراطية فيها، والتحول التدريجي في سياسة الولايات المتحدة من محاربة الإرهاب عبر الوسائل الأمنية إلى محاربة الأنظمة الاستبدادية وغير الديوقراطية في المنطقة وفق خطاب التنصيب بتاريخ 20 يناير 2005 لولاية ثانية للرئيس بوش. وقد عبر السفير كراجسكي بوضوح الاختلاف بينه وبين سلفه السفير(هول) في حديثه مع صحيفة الجيش (26 سبتمبر) بتاريخ 23 ديسمبر 2004، حيث أشار محاوره إلى أن البعض كانوا ينظرون إلى السفير الأمريكي السابق أدموند هول بأنه رجل استخبارات أكثر من كونه دبلوماسياً وسأله ماذا عنك؟ فأجاب «إن السفير السابق كان مركزاً على الجانب الأمني.. حيث كان تركيز الولايات المتحدة على محاربة الإرهاب وأنا أرغب في الاستمرار في تلك الجهود... بالإضافة إلى توسيع دائرة التركيز على قضايا أخرى متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية..». وكرر بتأكيد أقوى السياسة الجديدة للولايات المتحدة في لقائه مع صحيفة «الأيام» بتاريخ 6 أكتوبر 2005م بقوله «كان التركيز في علاقتنا (مع اليمن) على الدعم المالي لمساعدتها على اجتثاث الارهابيين من جذورهم..» واستشهد بتصريح لوزيرة الخارجية الامريكية بقولها «نحن نركز على الأمن بالضرورة ولكننا نفهم أن الأمن ليس نهاية الأمر وأن الأمن لا يمكن أن يستمر بدون ديموقراطية» وأكد التوجه الجديد بقوله لـ«الأيام»: «أنا لا أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستمنح أي دولة إعفاءات عن مواضيع معينة مثل حقوق الإنسان التي هي هامة جداً بالنسبة لنا وحرية الصحافة وحرية الفرد..».

السفير (هول) ركز على الإرهاب والأمن، ورأيه في قضايا الحريات في اليمن عبر عنها في آخر لقاء مع صحيفة «26 سبتمبر» بتاريخ 24 يوليو 2004 بقوله إنه يرى أن «هناك بالفعل حرية في اليمن، والمواطنون يعبرون عن رأيهم بمنتهى الحرية الشفافية» .. وحول القبيلة قوله بأن «دور القبيلة في اليمن مهم وهي تمثل جزءاً أساسياً من شخصية وهوية الإنسان اليمني وهذا شيء إيجابي.. (ولا يرى) تناقضاً ما بين القبيلة والدولة»؟؟ فمهمته في مكافحة الإرهاب جعلته يتغاضى ربما عن قناعاته الشخصية الليبرالية عن أوضاع الحريات في اليمن لأنه مكلف في التعبير عن سياسة معينة لفترة زمنية تطلبت قوله ذلك. والسفير كراجسكي في حديثه مع «26 سبتمبر» تحدث دون تقييم نقدي لمسار الحريات في اليمن في ديسمبر 2004، واتخذ الطابع النقدي في حديثه مع «الأيام» في أكتوبر 2005 بسبب المعطيات الجديدة لسياسات بلاده الخارجية. الجديد هنا ما أشرنا إليه من تحديد بوش في خطاب تنصيبه في 20 يناير 2005، إضافة إلى تبنى الكونجرس الامريكي بتأييد الحزبين الجمهوري والديموقراطي في مارس 2005 هذا التحول في مشروع قانون لنشر وتوسيع نطاق الديمقراطية في العالم وجعل هذه القضية عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية الأمريكية. ويدعو مشروع القانون الدبلوماسيين الأمريكيين في الخارج إلى عقد لقاءات مع ممثلى الحركات المؤيدة للديمقراطية بالدول التي يعملون فيها.

ويعتبر التشريع المقترح السفارات الامريكية (جزراً) للديمقراطية في الخارج ويطالب الخارجية الأمريكية ممثلة في دبلوماسييها بالعمل على إنهاء جميع أشكال الحكومات الديكتاتورية أوغير الديموقراطية في العالم.. (لمزيد من التفاصيل راجع إذا أردت صحيفة «الاهرام» القاهرية بتاريخ4، و«الحياة» اللندنية بتاريخ 5مارس 2005).

ثانياً: نفي السفير للعبارة لا ينفي انتقادات واشنطن لليمن

هللت بعض الصحف الرسمية والتابعة لها لنفي السفير توماس كراجسكى قوله إن «تقدم الديمقراطية قد توقف في اليمن» معللاً نفيه بعدم دقة الترجمة، ورأى أحد كتاب السلطة تراجع السفير عن تصريحه لـ«الأيام» بمثابة ضربة موجهة للمعارضة والمفكرين (الليبراليين) بعد أن فرحوا بها. وكما أشرنا قبل ذلك أن خبرة السفير الإعلامية في وزارة الخارجية لبلاده ربما جعلته يختار عن عمد تلك العبارة لإثارة النقاش حول مسار الديمقراطية في اليمن، والحديث عن العلاقات اليمنية الامريكية، وقد نجح في تحقيق هذا الهدف أبعد مما كان يتصور. فهو لديه الآن (دليل) على عدم تسامح السلطة ضد من ينتقد سياستها سواء من قبل المفكرين والمعارضة، أو من قبل السفراء الاجانب ولو كان سفير أكبر دولة في العالم، مما يفضح رفعهم شعار إيمانهم بالرأي الآخر، نعم للثناء والتبجيل لسياسة السلطة، لا لمن ينتقدها وله رأي مخالف وهو من صلب مفهوم الديمقراطية. ونجاح السفير يتمثل أيضاً في أن حملة الإعلام الرسمي ضده وضد عبارته الأولى روجت (للعبارة) نفسها على نطاق واسع داخلياً وخارجياً أن تقدم الديمقراطية قد توقف في اليمن، والنفي اللاحق لها لن يمحو مفردات أصل العبارة الأولى من الذاكرة. وعند التدقيق في العبارة البديلة التي استخدمها بقوله «إن الديمقراطية في اليمن قد واجهت بعض التباطؤ نتيجة ما تعرض له بعض الصحفيين من مضايقات» حسب ما نشر في صحيفة «الثورة» الرسمية بتاريخ 11 أكتوبر، نجد أنها تتضمن بدورها انتقاداً وإن كان مخففاً عن العبارة الأولى، فالديمقراطية في اليمن لا تسير قدماً إلى الامام وإنما تباطأت، وتضمن (التصحيح) أيضاً اعترافاً بحدوث مضايقات للصحفيين فما نشره الإعلام الرسمي عن قول السفير الامريكي بوجود بعض التباطؤ في مسيرة الديمقراطية اليمنية وحدوث مضايقات للصحفيين أمر تنفيه السلطات نفسها وإعلامها الرسمى . وفي الأخير وصف (تصحيح السفير) لعبارته الأولى بأنها «نفي» لتصريحه السابق فعبارة «نفي» لم ترد في تصريحه الذي تحدث «بأن هناك لبساً ربما حدث في فهم ذلك التصريح نتيجة الترجمة» (المرجع السابق لـ«للثورة») بينما سطرت «الثورة» في الصفحة الأولى الخبر تحت عناوين «نفي أن العملية الديمقراطية في بلادنا قد توقفت. السفير الأمريكي: الديمقراطية في اليمن تمثل نموذجاً في المنطقة» هذا العنوان نموذج لتضليل الإعلام الرسمي وحجب لحق المواطن في الحصول على المعلومات والاخبار دون تكييف وتحريف فهو حق أكدته مواثيق حقوق الإنسان التي صادقت عليها اليمن. ولعل الأهم أن السفير اقتصر في تصحيح العبارة وحدها دون التراجع عن بقية حديثه المهم لصحيفة «الأيام» الذي تناول فيها مفهومه(الليبرالي) للديمقراطية التي لا ينحصر معناها فقط في العملية الانتخابية ولو كانت (حرة ونزيهة) إذا أغفلت ضمانة الحريات الأساسية للمواطن. وهو الموضوع المهم الذي تناوله كتاب فريد زكريا (أمريكي مسلم من أصل هندي) الصادر في عام 2003 بعنوان «مستقبل الحرية والديمقراطية» والديموقراطية غير الليبرالية، الذي أثار ضجة واهتماماً عالمياً به، خاصة ما كتبه عن تجارب العالم العربي والإسلامي للديمقراطية، حيث اعتبر أن العالم العربي(مزنوق) بين حكومات اوتوقراطية ومجتمعات غير ليبرالية اللذين لا يشكلان أرضية خصبة للديمقراطية الليبرالية .. فبعكس التطور التاريخي للغرب الذي أولى الحريات الشخصية الاولوية وأنتجت الديمقراطية وارتبطت بنشـأتها، فإن العالم العربي في طريقه إلى الديمقراطية أوصل الديكتاتورية إلى الحكم وتمخض عنها مولود إرهابي (ص 150- 151) من الترجمة الفرنسية للكتاب، وبيّن فريد زكريا في بداية كتابه مفهوم الديمقراطية الليبرالية لدى الديمقراطيات الغربية أنها لا تعني فقط نظاماً سياسياً يستمد شرعيته من الانتخابات الحرة المحايدة، بل تعني أيضاً وجود دولة القانون، والفصل بين السلطات، وحماية الحريات الأساسية: حرية التعبير، حرية التجمع والعقيدة والملكية.. وهو ما يمكن تسميته (بالليبرالية الدستورية) التي لا علاقة لها بمفهوم الديمقراطية.. فالديموقراطية تزحف اليوم في مناطق عديدة من العالم ، ما عدا الحرية (ص 15).

الديمقراطية لا تقتصر إذن على تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، ولا يعني وجود التعددية بالضرورة دليلاً على بلوغ اليمن الديمقراطية. وهذه المحاور تناولها السفير الأمريكي في صحيفة «الأيام» حسب تفسير وقراءة الكاتب لها وهي ليست بالضرورة ما أراد قوله السفير.

جوهر الديمقراطية حماية الحريات

قول السفير «إن التقدم نحو الديمقراطية والدفاع عن الحريات الفردية والتقدم نحو توسيع هذه الحريات هذا كله مهم جداً للولايات المتحدة الامريكية..» مؤكداً «أن اليمن منذ زمن اختارت الطريق نحو فتح وتوسيع الحريات مثل حرية الصحافة والرأي وحرية الانتخاب وحرية المشاركة في الديمقراطية.. وعندما يتم مضايقة الصحفيين واعتقالهم وإغلاق الصحف نعم فإن واشنطن قلقة وتراقب وسنعلق على هذا وأنت على حق هذا مدعاة للقلق وسمعة اليمن.. ستتعرض للتشكيك». وحول محاولة اليمن الفوز في صندوق الألفية أجاب السفير «الرؤية في واشنطن تجاه اليمن ليست كلها سلبية بشكل كلي وليست كلها إيجابية»، مضيفاً «بدلاً من أن يكون النمط صعودياً في الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي وفي باب الحكم العادل.. بدلاً من أن يكون النمط صعودياً فإنه متساو أو نزولي بمعنى أن الدرجات تهبط حالياً» هذه الإجابات للسفير جاءت خارج سياق «توقف تقدم الديمقراطية» تبين بوضوح رؤية واشنطن عبر سفيرها في صنعاء عن وضع الحريات اليمنية الذي لم يتراجع عنه السفير في تصحيحه لعبارة (توقف تقدم الديموقراطية).

الديمقراطية تعنى احترام وحماية التعددية الثقافية والمجتمعية

أخذ اليمن شكل التعددية الحزبية ليس الا ديمقراطية ناقصة حتى لا نقول زائفة. فالخطاب الرسمي تحت الشعار المطاط والمتغير دوماً «الثوابت الوطنية» يهدف إلى إلغاء وجود التعدد الثقافي، واختلاف المستوى المجتمعي بين الشمال والجنوب، وبين مناطق الشمال نفسها التي يراد لها الذوبان تحت مفهوم موحد من القيم والمبادئ التي تحددها السلطة الحاكمة وهو ما يتعارض مع مفهوم الديمقراطية الحقيقية، وقد أشار إلى ذلك السفير بقصد أو بدون قصد من زاويتين هما:

1-النموذج الأمريكي للفيدرالية

في رده على سؤال حول مدى اعتقاده بأن الديمقراطية الحقيقية تبدأ بالمجالس المحلية أجاب السفير الأمريكي عن هذا السؤال بالتذكير أولاً أن الولايات المتحدة «كانت دولاً مستقلة بعد الثورة (لاحظوا هنا عبارة دولاً ومستقلة) ثم قررت هذه الدول الدخول في اتحاد فيدرالي بعد مجادلات طويلة وعدم ثقة بالحكومة المركزية.. فنحن لم نرد تأسيس حكومة مركزية قوية.. الحكومة الفيدرالية قوية جداً. إنها أقوى مما وضعه الآباء المؤسسون الذين كتبوا الدستور وأنتم (يقصد اليمن) توحدتم قبل 15 عاماً وكانت هناك حرب أهلية خاطفة ولديكم حكومة مركزية قوية وحكومات محلية ضعيفة..» تفسيرى لهذه المقاطع عبر إجراء المقاربة في وحدة الولايات المتحدة وخيارها الإطار الفيدرالي لوحدة دولها المستقلة «مثلما توحدتم أنتم منذ 15 عاماً واندلاع حرب أهلية لديكم» (دون الإشارة إلى حربهم الأهلية) فإن الولايات المتحدة بفضل نظامها الفيدرالي وديناميكية التطور تمخض عنها وجود حكومة فيدرالية مركزية قوية «بينما لديكم حكومة مركزية قوية(وهذا غير صحيح حسب وجهة نظر الكاتب) مقابل حكومات محلية ضعيفة (وهذا صحيح)». الرسالة الضمنية هنا للحكومة في عزمها إعطاء مزيد من الصلاحيات للمجالس في مجال الموارد لن يكون على حساب السلطة المركزية، فلا تخشوا من إجراء مثل هذا التعديل لقانون السلطة المحلية ولديكم بذلك تجربة الولايات المتحدة التي برغم لا مركزية الولايات أدت إلى تقوية الحكومة بعكس ما وضعه الآباء المؤسسون الذين كتبوا الدستور (الأمريكي).

2-إبراز خصوصية عدن

في ختام حديثه مع صحيفة «الأيام» عبر السفير عن انطباعاته الشخصية عن عدن بقوله «أنا معجب بالمجتمع التجاري هنا (في عدن) ويعجبني أن أكون موجوداً هنا في هذه المدينة.. في عدن ففيها يتولد إحساس أنها مدينة نابضة بالحياة مثل الذهاب إلى نيويورك بعد أن تكون في واشنطن لمدة طويلة عالقاً في البيروقراطية والسياسية وتذهب إلى نيويورك فتجدها حية ومليئة بالناس الذين يحاولون إحداث فرق .. وهذا هو الإحساس الذي أحس به في عدن» هذه التلميحات والمقارنة في مشاعره بين وجوده في نيويورك وواشنطن ثم مقارنته نيويورك- عدن تقول الكثير دون الإفصاح أكثر عن ذلك حول خصوصية مجتمع عدن، والمدينة كرمز لمنطقة تتميز بتاريخها عن مناطق أخرى في الجمهورية، وربما اختيار نيويورك من المدن الأمريكية للمقاربة إن لم تكن المقارنة بعدن قصد بها السفير أن عدن قبل الاستقلال كانت تحتل الموقع الثالث من بين الموانئ العالمية بعد ليفربول ونيويورك حسب تصنيف سابق لصحيفة «فاينشيال تايمز» البريطانية. ومن جهة أخرى ربطة موطن صحيفة «الأيام» بعدن أراد بذلك التذكير بتاريخ الحريات الصحفية وازدهار صدور الصحف في تاريخ عدن منذ أكثر من نصف قرن هي الاخرى إشارة ربما إلى اختلاف وتعدد التاريخ الثقافي بين مناطق اليمن والحاجة إلى تأكيد الديموقراطية حماية هذا التعدد لأنه مصدر إثراء للديمقراطية اليمنية من التعددية (الشكلية) للأحزاب.. سنتناول في الحلقة المقبلة موقف بريطانيا وهولندا وممثل الاتحاد الأوربي إزاء الحريات في اليمن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى