أيــام الأيــام..بين الحكم والمعارضة..وتعقيدات المرحلة

> د. هشام محسن السقاف:

>
د. هشام محسن السقاف
د. هشام محسن السقاف
بين المعارضة والحكم شعرة معاوية في أنظمة الحكم الديمقراطية .. ولذلك لا تضيق الصدور بالخصوم السياسيين أياً كانت مآخذ البعض على البعض، فالشفافية توفر فرصاً مثلى للتعاطي في الشأن السياسي تحت سقف مرفوع وموضوع بعناية قانونية فائقة لا يمكن تجاوزه بما يخل بالأصول المتفق عليها للعبة السياسية. هناك يمكن أن تدور عجلة التداول السلمي للسلطة من دون أن يشذ عن قاعدة الدوران ما يوحي باختلال ما في إطار الدستور والقانون وحتى العرف.

وربما يكون مرد ذلك أن الديمقراطيات الكبرى وصلت إلى مرحلتها المثالية بعد استنفاد كل مراحل التشكل والنمو الجنيني بإرادة الفكر السياسي الذي سبق الثورات البرجوازية في أوروبا، ولاكتمال السياسي نضجاً على خلفية تغيرات اقتصادية جوهرية، قادت السياسي إلى ما يمكن أن نطلق عليه شرعية تمثله للقيم السائدة وتجذير مكانته في الوسط الاجتماعي، على عكس كثير من التجارب الديمقراطية التي ظهرت من جراء ذوبان الجليد بين الشرق والغرب وانهيار الإمبراطورية السوفيتية في مطلع العقد التسعين من القرن الماضي، حيث مارست النظم المعنية نوعاً من الحذاقة السياسية للهرب من مصير شبيه بمصير نظام شاوسسكو في رومانيا، حتم عليها الأخذ بالمبادئ الديمقراطية على قدر كبير من الحذر والحيطة -كما في تجارب كثير من البلدان العربية- دون أن تقدم على خطوات تجذيرية قانونية بالأساس، لرسم الملامح الصحيحة للديمقراطية بما هي تداول سلمي للحكم، وظلت الأجهزة ذاتها الحامية للدولة الشمولية تقوم بمواصلة إرث الحفاظ على نمطية الدولة ذاتها التي غيرت ملامحها الخارجية ليس إلا، وحارت بين ترددها وخوفها من التبدل الديمقراطي الموعود، وعدم مقدرتها على التنصل منه بعد أن خرج مارد الجماهير من قمقمه المسحور وللاشتراط العالمي : الدافع بشتى الوسائل لمثل هذه النظم إكمال مسيرة الديمقراطية بالنمطية المراد تطبيقها عالمياً، بقوة دفع أمريكية أو أمريكية أوروبية في الغالب الأعم.

ولذلك لا يجوز في ظروف بلادنا الاستهانة بما تحقق على هذا الصعيد، لكن بالمقابل لا يجوز السكوت على عثرات جمة تقف حائلة في طريق الإكمال الديمقراطي بمسلمات الدستور والقوانين.

وكلما أنجز الوطن خطوات على هذا الطريق الذي يجب أن يكون شبيهاً بالطرق السريعة في أمريكا وأوروبا للوصول إلى غايات ترتجى، الديمقراطية خير السبل المؤدية إليها، وجب علينا انتزاع حقوق أخرى وتعديل القوانين المعرقلة والذهاب إلى الأبعد دائماً، مادام ذلك هو الأساس الذي تقوم عليه دولة الخلاص الاجتماعي التي في ظلها تتساوى المواطنة بحقوق وواجبات ثابتة، وتنشط مفاصل الإدارة الحكومية خالية من إرهاق الفساد ولخدمة الوطن، بينما تجري على الأرض شراكة حقيقية للحكم ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص .. ويكون الترابط الهيكلي المرن بين المركز والقطاعات الإدارية: محافظات أو ولايات أو ألوية أو مخاليف (أياً تكن التسمية) يخدم طرفي المعادلة: المركز والوحدات دون إجحاف، من خلال رؤية واضحة لدور الوحدات تقوم على صلاحيات قانونية واسعة في حكم وإدارة نفسها بالاعتماد على: الأرض والثروة (مع تحديد النسب التبادلية مع المركز ليس على حساب أصحاب الأرض والثروة ودون إلغاء لحاجة المركز) والتشريع الداخلي (وهي تجربة ليست جديدة أو نبتة شيطانية، وقد مارستها المجالس المحلية في عدن في ظل الإدارة البريطانية) وفي اعتقادي أن ذلك سوف يكون مدخلاً حسناً إلى بوابات العصر، ينمي من مقدرة المركز على ديمومة البقاء في ظل ازدياد عوامل الوهن التي تعتريه حالياً، وينمي مقدرة الوحدات الإدارية على التطور والنماء لصالح المواطنين، بعيداً عن البيروقراطية المفرطة التي يمارسها المركز والفساد الضارب أطنابه في كل الإدارات والأجهزة ويجري تدويره وتصديره إلى الوحدات، مع قراءة متبصرة لتجارب الدول والشعوب التي يشار إلى تجاربها بالبنان كالولايات المتحدة وكندا، وهي دول لا يستطيع أحد أن ينكر أن ارتقاءها على سلم التطور المذهل قد جاء مواكباً لحلها معضلة الحكم بشكلها الفيدرالي أو الكونفدرالي المعروف، مع قراءة أخرى متبصرة أيضاً لتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة كأنموذج عربي شقيق نراه ونعجب بمزاياه دون توجس.

وفي ضوء ما سبق تبرز الحقائق التالية يمنياً تتمثل في:

ضعف بنيوية مؤسسات المجتمع المدني، وتهميشها العمد إما بمصادرة حقها في الحراك الاجتماعي العام عن طريق الترهيب، أو بخلق منافسين وبدائل من داخل دواليب الأجهزة الحكومية التي نبغت في ابتكار أسلوب التفريخ الصناعي للمعارضين في عملية تشويه للنمو الطبيعي لقوى المجتمع المختلفة. ولذلك لا نستغرب كثيراً في ظل وضع كهذا، وفي ظل غياب العمل المؤسسي المنظم أن تأتي مبادرات الحراك على رقعة الديمقراطية من أعلى مرجعية سياسية في البلاد، تمثلت إحداها في قرار فخامة الأخ الرئيس التاريخي عدم ترشيح نفسه لدورة انتخابية رئاسية قادمة تبدأ العام القادم، والأخرى التوجيه بتعميق تجربة السلطة المحلية لتقترب من حكم محلي واسع الصلاحيات يتم في إطاره انتخاب المستويات الأعلى في الحكم المحلي من محافظين ومدراء مديريات ..إلخ. وهذه وإن كانت تحسب لفخامته فإنها مؤشر آخر على مدى ضعف المستويات المدنية التي تعبر عن رأي الجماهير من منظمات المجتمع الأهلية، وتدليل آخر على مدى ضعف وهشاشة التنظيمات السياسية والأحزاب في المعارضة والحكم على السواء. والتعبير الأوضح لرداءة الصورة في هذه الكيانات ما تفرزه من تأويلات تذهب للوصول إلى ولاء كاذب لرأس النظام السياسي في البلاد، بتجريد عشرين مليوناً من أبناء الشعب اليمني مقدرة على أن يسدَّ أحدهم الفراغ السياسي الذي ستتركه مغادرة فخامة الأخ الرئيس سدة الحكم، وكأن مجد وعظمة هذا الرجل التاريخي بمعنى الكلمة قد تأتت من حكمه لملايين من اليمنيين الذين لا يفقهون شيئاً في إدارة شؤون حياتهم، ومقطوعي جناح التواصل مع إرث سياسي أو اجتماعي في تاريخ أمتهم برمته، وهو لعمري مديح يشبه الذم، بينما يكون من الأجدر بجميع القوى الفاعلة في المجتمع أن تمجد هذه الخطوة التاريخية وترتقي بها إلى مصاف الفكر السياسي الذي تمخضت عنه بقراءاتها الاستباقية لمجرى التطور الإنساني السائد، الذي أصبح محكوماً بعوامل يلعب فيها الخارجي أدواراً لا تقل عن العوامل الداخلية، في فضاء مكشوف للجميع ليس بمقدور أحد أن يتصرف في حدوده الضيقة كما يشاء بمعزل عن رقابة العالم. وبحدود المعرفة الذاتية لتعقيدات الوضع اليمني سياسياً واجتماعياً واقتصادياً - دون قفز على الحقائق- يكون من المفترض أن تسخر كل الإمكانات الوطنية لخلق أجواء تمهيدية نقية من الشوائب تساعد على انتقال سلس وسلمي بوسائل ديمقراطية للسلطة، وهو الأمر الذي لن يتأتى بصورة طبيعية دون أخذ حيز من الوقت، وجهد رئاسي مبذول يضطلع به فخامة الأخ الرئيس فيما تبقى من ولايته الحالية، بأشكال يتفق عليها سواء بحكومة وفاق وطني، أو حكومة انتقالية ذات صلاحيات واسعة يترأسها فخامته، أو بأي شكل آخر من أشكال الإدارة السياسية تقود البلاد إلى مرحلة أخرى يتم فيها التبديل السلمي الديمقراطي للسلطة، وربما احتاج الأمر لتمديد محدود للولاية الرئاسية الحالية، ومن ثم من الأحسن أن تباشر الحكومة المقترحة بطرح المسائل الملحة الكبرى .. ثم تعمد إلى حلها بالاعتماد على شرعيتها الدستورية وبقوة دفع جماهيرية تتوق للتغيير الاجتماعي بعد أن وصلت الأوضاع العامة في البلاد إلى نقطة اللاعودة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى