غياب الأغنية الدينية جزء من غياب الطرب الأصيل

> «الأيام» مختار مقطري:

> ذهب زمن الاغنية الجميلة بكل اغنية جميلة، جميلة من حيث الكلمة واللحن والمضمون، فليست الاغنية العاطفية هي اجمل ما يمكن سماعه من غناء، فالجمال الفني الراقي كان يأتلق زمان حتى في الاغنية الوطنية وأغنية الطفل والأغنية الدينية، وتقديم اغنية غير عاطفية كان بالنسبة للمطرب زمان يعني مسؤولية كبيرة واقتحام مترو لعالم آخر له خصوصية متميزة تتطلب موهبة فنية فذة لا ترتجل اختيار أي عنصر من عناصر الاغنية الناجحة.

ونجاح العمل الفني زمان كان يعني استمراريته وليس نجاحا عمره قصير تمنحه للعمل الفني وسائل الإعلام والدعاية التي تسبقه، فتصوره بالعمل الكبير الذي رصدت له الميزانيات الضخمة واختير لأدائه اشهر واكبر مطربي الوطن العربي، لتبثه معظم الفضائيات العربية (تكعيفا وتنغيصا) ليصبح المتلقي العربي كـ (مجبر أخاك لا بطل)، ثم يحفظ العمل في ارشفتها بعد فترة بث لا تزيد عن شهر.

ولكن الاعمال الفنية الغنائية على الأقل ، التي تسمى اليوم - تعسفا حينا وحينا عمدا - بالأغنية القديمة او الكلاسيكية أو اغاني زمان مازالت اليوم في خانة المقارن به لعدم خلوها من التطريب ولقدرتها الدائمة على الادهاش والفوز بإعجاب وحب الشباب من الجيل الجديد، الذي اتهمنا ذوقه بالعصرنة وميوله بالرقص على الايقاع السريع وزمنه بزمن السرعة، وفرضنا عليه بمحاصرته بالأغاني المهجنة والمشوهة وتلك المخلقة من خلط كلمات شعبية بكل ما في اللهجة الشعبية من مفردات خارجة بإيقاعات فوضوية صاخبة لا تؤمن بموسيقية الايقاع بمناظر مستوردة لا علاقة لها بواقعنا ولا بمضمون الاغنية، فرضنا عليه ان يرقص وهو يغني وأن يغني وهو يرقص، فأصبحت اغنية اليوم (هكذا افضل تسميتها) محاولات فاشلة للانتماء الوجداني والذوق السليم (والذوق السليم في الانسان السليم)، وصار الرقص اليوم اشبه بمحاولات مستميتة لحك مكان في الجسم لا تستطيع اليد أن تصل اليه، فلا عجب ان يسأم الشباب من أغانيه المتشابهة في خوائها وركاكتها وهزالها والعدوى التي اصابتها بالتيفوس الفني والدرن الابداعي، وأن يعود إلى الأصل ليستمع الى الأغنية الطربية الأصيلة.

والجفاف الفني الذي اصاب الأغنية العاطفية الطربية أصاب الأغنية بمضامينها الأخرى - الوطنية والدينية وأغنية الطفل - ولعل إقصاءها كان متعمدا لرقي عناصرها كمقدمة لتفريغ الأخرى من قدرتها على التأثير، لذلك مازالت - على سبيل المثال- تجليات ام كلثوم في (معلقاتها) الدينية هي أجمل ما قدم من غناء ديني معطر بمشاعر وطنية، ومازالت اغانيها بمناسبة العيد تقدم في كل عيد رغم انقضاء نحو سبعين عاما على تقديمها لأول مرة، فلم تنافسها اغنية دينية أو وطنية من اغاني اليوم، ومازلنا الى اليوم نسمع بفرحة في موسم الحج اغنيتها الرائعة (القلب يعشق كل جميل)، ومازال (الجيل الصاعد) أو(الوطن الأكبر) لمحمد عبدالوهاب حافل بجلجلة واثقة وصخب رصين ومشاعر وطنية صادقة للصدق في التعبير، في حين لم يستطع (اوبريت عربي) ان يحرك فينا اية مشاعر فغلب علينا النعاس ونحن نسمعه رغم الملايين التي رصدت لإنتاجه واختيار اشهر مطربي الوطن العربي لأدائه، ومازال محمد فوزي يعيدنا نحن الكبار الى طفولتنا وهو يغرد للصغار: (ماما زمنها جاية وذهب الليل) في حين قدمنا نحن للطفل - بعد أن اهملناه كثيرا - أغنية تفوقت على اغاني الكبار لكنها لا تعلم أطفالنا سوى الرد على التلفون بمنتهى قلة الأدب.

وفي إحصائية اعدها لي الأخ والصديق الفنان التشكيلي عمر سعيد فرج احتوت كل الأغاني الدينية تقريبا التي قدمتها اذاعة عدن منذ اليوم السابق لشهر رمضان الجاري وحتى الحادي عشر وكانت كلها إلا اقل من اصابع اليد أغاني لفنانين يمنيين وعرب قدموها في زمن الفن الجميل مما يعني عدم تسجيل اغان دينية جديدة إلا فيما ندر ومثلها أغنية الطفل والأغنية الوطنية باستثناء اغاني المناسبات، رغم وجود فنانين مخضرمين وشبان قادرين لديهم الجديد والجميل من الأغاني الدينية والوطنية، وعلى سبيل المثال، يأتينا من أبين عطاء الفنان القدير محمد السنيدي، ومن عدن الفنان القدير يحي محمد فضل الذي ذكر لي ضمن الحوار الدي اجريته معه ونشر في «الأيام» بتاريخ 20/10 انه لا يتمكن من تسجيل اعماله الفنية الجديدة ومن ضمنها الأغاني الوطنية والدينية، لأسباب ذكرها في الحوار المذكور. وهي أسباب لم تعد خافية على احد.

ومن الماضي الفني الجميل، اخترت للقارئ الكريم كلمات إحدى الأغاني الدينية الخالدات، التي نحرص على سماعها الى اليوم لنقي اذواقنا من الصدأ، إنها أغنية (إلهي ما اعظمك) التي اختزل كلماتها الراقية ومعانيها الدينية والانسانية والفلسفية في مفردات عامية بسيطة وقليلة الشاعر الغنائي الكبير حسين السيد، ولحنها بفكر موسيقي ومشاعر صوفية مسبحة بحمد الله والثناء عليه في آياته وآلائه الكونية والارضية عبقري الأغنية العربية رياض السنباطي، واختار لتلحينها (مقام بياتي) مع توظيف فني لنسيج كثيف الاحساس وغني بالانسياب الهادئ والومضات المتلاحقة في أناة لمقام (الكرد) عن موهبة تشربت التواشيح الدينية والانشاد الصوفي وعن علم أمكنه من تمييز خصوصية كل مقام موسيقى ليلائم بينه وبين مضمون الكلمات في كل اغنية يلحنها، ليقدمها لنا هذه التحفة الرائعة في وريقات من البهاء الأخضر والاشراق الفضي صوت المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة.

إلهي ما أعظمك في قدرتك وعلاك

إلهي ما أرحمك في غضبتك ورضاك

إلهي ما أكرمك للعبد لو ناداك

جلت صفاتك يا من لا إله سواك

خلقت النور وقلت اسعوا في طلب النور

ومشيوا ناس وتاهوا ناس في وسط بحور

بعثت الرحمة تهدي العاصي والمغرور

وفي من تاب وفي من ساير المقدور

وبرضه كريم وكنت حليم وكنت غفور

خلقت العلم يبني طريق سلام وأمان

وفينا من رفع راية الهدى عصيان

بدعوة جرح شارد يتموا العدوان

وراح الظلم والجبروت والطغيان

على خدود الحجر ساب الزمن تجاعيد

تحكي لكل البشر قصة ملوك وعبيد

الكل راح واندثر وتساوت المواعيد

وساب في ابسط صور آيات لها تمجيد

صلى عليها الزمن بالحمد والتوحيد

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى